نُشر في مجلة الرقيم وفي فسبك وتويتر في 24، 25/ 7/ 1441هـ.
كتاب «العثمانية» لأبي عثمان الجاحظ من أعجب كتبه إليّ وآثرها عندي لأنه أدلُّ كتبه على محلّه من لُطف النظر وثقوب الخاطر، وأشفُّها عن براعته في الجدل وفي تصريف الحجّة والتبريح بالخصم. وهو في مُعظمه من مقوله لا من منقوله على خلاف ما تراه في عامّة كتبه. وهذه مزيّة أخرى. وقد تولَّى تحقيقه الأستاذ عبد السلام هارون رحمه الله فأبلى البلاء المبين في قراءة نصّه وفي ضبطه معتمدًا في ذلك على نسخة كثيرة التحريف، وعلى نسخة أخرى ناقصة. فمن أجل ذلك لحقَت عملَه بعضُ الهنوات. وقد علّقت على نسختي ما صادفني منها غير متكلّفٍ لاستقصائها ولا كان من نيّتي نشرُها يومَ علّقتها، ولكني لما تعقّبتها بالنظر وجدتُّ أن مقدارها يفي بمقالةٍ، فرأيت جمعها وتفصيل القول فيها مؤمِّلًا من وراء ذلك بركةَ الإفادة، ومثوبةَ الدلالة والإرشاد. وهذا بيانها.
1- قال الجاحظ في (ص3): (وليس بين الأشعار وبين الأخبار فرقٌ إذا امتنع في مجيئها وأصل مخرجها التباعد والاتفاق والتواطؤ).
وعلق هارون في الحاشية: (في الأصل وب: «التشاعر»، وصوابه من ح).
قلت: بل ما عدلَ عنه هو الصواب. والمراد بالتشاعر إشعار بعضهم بعضًا، أي إعلامه. أراد أن حكم الأشعار كحكم الأخبار، فكلاهما يجب قبوله متى ما امتنع إشعار بعض رواته بعضًا به واتفاقُهم عليه وتواطؤهم على توليده. ولا وجه للتباعد هنا. ويشهد له قول أبي عثمان في الكتاب نفسه (ص262، 263): (ولا بدّ ما دامت التقيّة من التواكل والتخاذل وإن اتّفق رأي الجميع في المغيَّب على النصرة. وليس يُنتفع باتّفاق أهوائهم ما لم يتشاعروا)، أي ما لم يُشعر به بعضُهم بعضًا. وفسّر هارون (يتشاعروا) في الحاشية بقوله: (في أساس البلاغة مادة (شعر): «وتقول: بينهما معاشرة ومشاعرة»). وهو غلط، إذ لا مدخل للمعاشرة هنا كما يدلّ على ذلك معنى الكلام.
وشاهدٌ آخر على ذلك قولُه في «الحيوان 1/44، تح هارون»: (ثم تعبّد الإنسان بالتفكّر فيها... ووصل معارفَهم بمواقع حاجاتهم إليها، وتشاعرهم بمواضع الحكم فيها بالبيان عنها). أي تعالمهم وتخابرهم. وضُبِطت (تشاعرِهم) بالجرّ. ولعل الصواب النصبُ. أي ووصل تشاعرَهم.
وقولُه في رسالة «كتمان السرّ وحفظ اللسان» [رسائل الجاحظ 1/143، تح هارون]: (وبذلك ثبتت حجّة الله على من لم يشاهد مخارج الأنبياء ولم يحضر آيات الرسل وقام مجيءُ الأخبار من غير تشاعر ولا تواطؤ مَقام العِيان). وعلّق في الحاشية: (المراد بالتشاعر المخالطة والملابسة والمعاشرة)، وأحال إلى الموضع السابق من «العثمانية» وإلى «أساس البلاغة» و«لسان العرب». وهو خطأ كما أنبأتُك.
ومثلُه أيضًا قول الجاحظ في رسالة «حُجج النبوة» [رسائل الجاحظ 3/248]: (... العدد الكثير لا يتفقون على تخرّص الخبر الواحد في المعنى الواحد في الزمن الواحد على غير التشاعر فيكون باطلًا). وعلّق هارون في الحاشية: (التشاعر: تفاعُل من قولهم: شعَر بكذا: أحسّ به)، وأحال إلى الموضع السابق من «العثمانية». وبيِّنٌ هنا أنه قد شعَر بخطئه في التفسير السابق لمعنى التشاعر فرجع عنه وقارب الصواب ولم يبلغه، لأن التشاعر لا يراد به الإحساس، بل إنّ مرجعَه لَإلى الإعلام كما مضى بيانه.
وقد وردت هذه الكلمة مرةً أخرى في الرسالة نفسها «حُججِ النبوة» [رسائل الجاحظ 3/270]. وأحال هارون إلى الموضع الأول من هذه الرسالة.
ولهذه الكلمة ذِكرٌ قليل في كلام أهل ذلك العصر ومَن بعدهم، من ذلك ما حكاه عصريّه ابن طيفور (ت280هـ) في كتاب «بغداد 45» عن إبراهيم بن السندي الذي يروي عنه الجاحظُ في كتبه.
وقد دلّني بعض الأصدقاء – وجرى ذِكر لهذه المسألة – على كلام لمحمود شاكر في تعليقه على «تفسير الطبري 6/127» قال فيه: (في المطبوعة: «التشاغر» بغين معجمة، وهو خطأ غثّ. والصواب من المخطوط. و«تشاعروا الأمر أو على الأمر»، أي تعالموه بينهم. من قولهم: «شعر» أي «علم». وهي كلمة قلما تجدها في كتب اللغة، ولكنها دائرة في كتب الطبري ومن في طبقته من القدماء. وانظر الرسالة العثمانية للجاحظ: 3، وتعليق: 5، ثم ص: 263، وصواب شرحها ما قلت. وانظر ما سيأتي ص: 155، تعليق 1).
وهو تصحيح موافق لما ذكرتُه. وقد احتجّ له بعين الموضع الذي أومأت إليه من «العثمانية»، وما كنت أدري به من قبل.
2- قال في (ص10): (والناسُ بين معاند يحتاج إلى التقريع، ومُرَادٍّ يحتاج إلى الإرشاد، ووليّ يحتاج إلى المادّة، وغُفل يحتاج إلى أن يُكثر له من الحجّة ويُتابَع له بين الأمارات والدلالات).
علّق هارون في الحاشية على (مرادّ) بقوله: (ب: «ومرتاد»).
قلت: (مرادّ) لها وُجيه. وقد جاءت في كلام للجاحظ آتٍ بعدُ (ص247) قال فيه: (... وتولّيَ مكانه الخاملَ القليل المقصِّر، فلا يُرادّ ولا يُدافَع)، ولكنّ أكثرَ مناسبةً للمعنى أن يقال هنا: (ومرتابٍ يحتاج إلى الإرشاد) لأن الشاكّ هو الذي يحتاج إلى أن يُبيَّن له ويُرشَد، وليس المرادّ المدافِع، إذ المدافع أشبه بالمعاند الذي حقُّه التقريع. ويؤنس بهذا رسمُ اللفظ في نسخة (ب). ويسدّده أيضًا قول أبي عثمان في الكتاب نفسه (ص79): (أنقذ الله به من الضلالة والناس بين ساكت لا غَناء عنده، أو خائض مستريب يحتاج إلى التعريف، أو موقن يحتاج إلى المادّة وتلقين الحجّة).
والموقن هنا هو الوليّ هناك. وقد جعله في الموضعين محتاجًا إلى المادّة. والتعريف هو الإرشاد. وقد قرنَ به المستريب. فينبغي أن يكون اللفظ المختار هنا هو (المرتاب) لأنه بمعنى المستريب، وليس (المرادّ).
3- قال في (ص24): (ولذلك قال النبي لحسان مع سنّ حسانٍ وعلمه). وصرفَ هارونُ (حسان) وجرَّه مع أنه لم يُضبط في المخطوط. والحقّ أن النحويين حين يذكرون أن في (حسان) الوجهين الصرفَ والمنعَ فإنهم يعنون ما يحتمله اللفظُ من جهة اشتقاقه لا حقيقةَ الاستعمال، فأما في الاستعمال فإنه لا يكاد يوجَد في كلام العرب إلا ممنوعًا من الصرف. ومن شواهد ذلك في اسم حسان بن ثابت رضي الله عنه خاصّةً إذ هو المذكور في نصّ الجاحظ، قولُ حسان نفسِه:
ما هاجَ حسّانَ رسومُ المَقامْ ** ومظعنُ الحيّ ومبني الخيامْ
وقول أبي قيس بن الأسلت الأنصاري يخاطب حسان:
ألا من مبلغٌ حسانَ عني ** أسحرٌ كان طبّك أم جنونُ
4- قال في (ص37): (ألا ترى إلى قوة شهامته وجلَده وصدقِ نيته في كشف القناع والمبادأة لرأس الكفر وسيّد البطحاء عند نفسه ورهطه).
قلت: (المبادأة) لعلّ صوابها (المباداة) بالألف لا بالهمز. يريد الإظهار والمجاهرة والمصارحة وترك المداراة، من (بدا يبدو)، يدلّ على ذلك ذكرُه لـ(كشف القناع). وهي مع ذلك غير مهموزة في المخطوط. وهذا اللفظ من لغة الجاحظ، قال في رسالة «التربيع والتدوير» [رسائل الجاحظ 3/95]: (وأمر بالمداراة كما أمر بالمباداْة، وجوّز المعاريض كما أمر بالإفصاح) فجعلها ضدَّ المداراة، وقابلها بـ(الإفصاح). وقال بعده (ص101): (ولا ترضى بأن يكون أولًا حتى تكون آخرًا، ولا بالمداراة دون المباداْة). هكذا ضُبِطت في الموضعين، وبذلك فسّرها هارون. وجاءت أيضًا في رسالة «مناقب الترك» [رسائل الجاحظ 3/173]، قال: (ومنا الدعاة قبل أن تظهر نقابة أو تُعرف نجابة وقبل المغالبة والمبادأَة وقبل كشف القناع وزوال التقيّة). هكذا ضبطها هارون بالهمز، وعلّق في الحاشية: (في الرسائل: «والمباراة» وبالراء). وأحسب صوابها (المباراة) بالراء والألف لأنها نظير (المنازعة) إذ معنى المباراة: المعارضة والمجاراة. وقد يجوز أن تكون (المباداة) بالدال والألف لولا أنه فصَلَ بينها وبين (كشف القناع) بلفظ (قبل)، فكأن ذلك يقضي أنها تخالفها في المعنى. فأما الهمز فغيرُ متّجِهٍ في ما أرى.
5- قال في (ص39): (إن أبا بكر وإن لم يقاتِل قبل الهجرة فقد قُتِل مرارًا وإن لم يمت قبل الهجرة، ولأنه لو جُمِع جميع المكروه الذي لقي أبو بكر ثلاث عشرة سنة لكان أكثر من عشرين قتلة).
قلت: قوله: (ولأنه) كذا جاء في النشرة، وكذا وقع في المخطوط. وأرى الواو مقحمة هنا لإخلالها بالمعنى لأن المراد تفسير قتل أبي بكر مرارًا من غير أن يموت.
6- قال في (ص40): (وأبو بكر مفتون مفرد [ومطرود مشرّد، ومضروب معذَّب]).
وذكر هارون في الحاشية أن ما بين المعقوفين من نسخة ب. وذكَر بعضَ الاختلافات التي تدلّ على اضطراب هذا الموضع.
قلت: لعل وجه الكلام أن يقال: (وأبو بكر مفتون مشرّد ومضروب معذّب) لقوله بعد أسطر: (ولا سواءٌ مفتون مشرَّد لا حيلة عنده، ومضروب معذَّب لا انتصار به ولا دفع عنده...).
7- قال في (ص47): (واعلم أن المشي إلى القِرن بالسيف ليس هو على ما يتوهمه الغِمر من الشدّة والفضل وإن كان شديدًا فاضلًا... ولكنْ معه في وقت مشيه إلى القِرن أمور تَنفَحه مشجِّعة).
علّق هارون في الحاشية: (تنفَحه: تدفعه. ولم يُعجم من تلك الكلمة في الأصل إلا الفاء. وكلمة «مشجعة» رسمت في أصلها «مسحز». وانظر سياق الكلام).
قلت: هذا رسمها في المخطوط:
وقد قرأها هارون: (أمور تَنفحه مشجِّعة). وأرى أن تُقرأ (أمور منفِّجة مشجِّعة)، أي تَحمله على النَّفْج، وهو الخيلاء والتعاظم. وهو من معروف لغة الجاحظ، منه قوله في «البيان والتبيين 1/273، تح هارون»: (وما نشك أنه عليه السلام قد نهى عن المراء، وعن التزيد والتكلف، وعن كل ما ضارع الرياء والسمعة، والنفج والبذخ)، وقوله في «الحيوان 3/158»: (ومن المصّ والرّشف، ومن التنفّخ والتنفّج، ومن الخيلاء والكبرياء).
و(مشجّعة) لفظ وَفقٌ لهذا الموضع. وقد جاء في بعض كلام الجاحظ، وذلك قوله في «الحيوان 7/133»: (وإذا قوي الجاموس مع هذه الأسباب المجبّنة على الأسد مع تلك الأسباب المشجّعة). وأنصعُ من هذا قوله في «العثمانية 48»: (وإذا كان مع صاحب الإقدام من الأمور المشجّعة أمور فاضلة...) فقرنها بـ(الأمور) كما هي ها هنا.
فأما (تَنفحه) فلا أعرفها من لغة أبي عثمان. هذا مع أنّ في انتظامها في هذا الأسلوب شيئًا من النكارة لأن العادة أن يقال في مثل هذا: (أمورٌ مشجِّعة) فقط أو (أمورٌ مشجعةٌ تنفحه). فأما توسيطها بحيث يكون الكلام (أمورٌ تنفحه مشجِّعة) فيشبه لغة الشعر لا لغة النثر. هذا مع قلّة فائدتها، خلافًا للفظ (منفِّجة) لأن فيها زيادة بيان، إذ التنفيج غير التشجيع.
8- قال في (ص55): (وبين أن يُفردُ الله الآي ويخصُّه).
الصواب (يفردَ) و(يخصَّه) بالنصب كما هو ظاهر.
9- قال في (ص58): (مع أنكم تُزيدون في كثرة القتلى).
الصواب (تَزيدون) بفتح التاء لأن ماضيه (زادَه) كما قال تعالى: ﴿فزادوهم رهقًا﴾. ولم يُسمع (أزادَه).
10- قال في (ص111):
(إذا تذكرتَ شجوًا من أخي ثقةٍ ** فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا
التاليَ الثانيَ المحمودَ مشهده ** وأولُ الناس منهم صدّق الرسلا).
قلت: (وأول) لم تُضبط في المخطوط. وقد ضبطها هارون بالرفع. والوجه نصبها على الإتباع لأنه الأصل، ولا سيما أنه عطف عليه بعدُ بالنصب فقال: (وثانيَ اثنين...).
11- قال في (ص119): (ولو كان الأمر كما قالوا ما كان أحد أعلمَ به من ابن عباس ولا أشعرَ به منه).
علق هارون في الحاشية على (أشعر) بقوله: (في الأصل: «أسعد»).
قلت: ما في الأصل أدنى أن يكون هو الصواب. ومعنى (أسعد) في مثل هذا الأسلوب هو (أحظّ) أو (أحقّ). ومنه قول ابن المقفع (ت145هـ) في «كليلة ودمنة 337، 338، تح عزام»: (فإن الآمر بالخير ليس بأسعد من المطيع له فيه، ولا الناصح بأولى بالنصيحة من المنصوح له بها ولا المعلّم بأسعد بالعلم من من تعلّمه منه)، وقول أبي حيان التوحيدي (ت414هـ) في «البصائر والذخائر 7/249»: (وقد تحلّى منه بأشياء كثيرة ليست خطئًا منه، وليس المعارض له بالتكفير بأسعد منه في نقل الاسم إليه).
وأما (أشعر) فمعناها (أعلم). ولا يُعرف استعمالها في كلام أبي عثمان وأضرابه بهذا المعنى، على أنها تَكرار لمعنى (أعلم).
12- قال في (ص128): (وإذا قال حسان بن ثابت والعجاج والحارث بن هشام وأشباههم من من ذكرنا في القَدَم والقدر...).
قلت: لم تُضبط قاف (القدم) في المخطوط. وضبطها هارون بالفتح. والأصحّ أن تُضبط بالكسر (القِدَم) لأنه أراد نعتهم بفضيلة التقدّم في الزمان مع سموقهم في القَدر أيضًا ليكون هذا أدلّ على صحّة الاحتجاج على عراقة اسم (الصدّيق) والردِّ على من زعم (ص123) أنه مولَّد موضوع محدَث. أما (القَدم) بفتح القاف فمعناها التقدّم والسابقة. وهو قريب من معنى (القدر)، فتكون كالتكرار له.
13- قال في (ص130): (حيث أمره أن يؤمّ الناس ويقوم مقامه في صلاته وعلى منبره حتى أن عائشة وحفصة أرادتا صرف ذلك عنه...). ومثله ما وقع في (ص176): (حتى أنه كان يطويه).
قلت: الصواب (حتى إِن) بكسر (إِن) لأنها جملة ابتدائية.
14- قال في (ص138): (... وإن لم تكن خُصوصيته موجودة في لفظ الحديث).
قلت: لم تُضبط (خصوصيته) في المخطوط. وضبطها هارون بضم الخاء. والفتح أفصح من الضمّ. وقد لخّص الزَّبيدي في «تاج العروس، خصص» الكلامَ على هذا اللفظ بقوله: (والفتح أفصح كما نقله الجوهري. وبه جزم الفَناري في «حاشية المطوَّل». وهو الذي في «الفصيح» وشروحه).
15- قال في (ص142، 143): (... وتركُ ما سوى ذلك من ما لا يُبرئ من سقم ولا يُبرِد من حيرة. وإنما الخبر الصحيح الذي لا يعتمد بضعف الإسناد ولا يُترك لضعف الأصل ولا يوقَف فيه لكثرة المعارض والمناوئ كنحو ما روينا من مآثرهم...).
وعلّق هارون على (يعتمد) بقوله: (كذا في الأصل).
قلت: ضبَطَ هارون (يُبرِد) هكذا. وهي لغة رديئة. والأفصح (يَبرُد) من (بَرَده). وهي من ألفاظ «الفصيح». وكذا ضُبطت في المخطوط. ومنه قول الحماسيّ:
فإن أكُ قد بَرَدت بهم غليلي ** فلم أقطع بهم إلا بناني
وأما (يعتمد) فهي تصحيف. والصواب (يُغتمَز)، أي يُعاب ويُطعَن فيه. ومن شَكله ما جاء في الخطبة البتراء لزياد بن أبيه (ت53هـ) التي رواها الجاحظ في «البيان والتبيين 2/63»: (فإذا تعلقتم عليّ بكذبة فقد حلت لكم معصيتي، وإذا سمعتموها مني فاغتمزوها فيّ). ومنه أيضًا قول أبي عثمان في «العثمانية 167»: (... لو وجدوا غميزة أو خلافًا أو معصية لم يدَعوا الاحتجاج به والخوض فيه).
16- قال في (ص151): (فإن كان أنس كما تقولون فقد ركب أمرًا عظيمًا وذهب مذهبًا قبيحًا. وكيف يصدُق على النبي صلى الله عليه من خُلُقه بهذا وكذَبَه في وجهه...).
علّق هارون على (خُلُقه) بقوله: (كذا في الأصل. ولعله وجه).
قلت: لعلّ صوابه (من خَلَفَه بهذا) أي ناب عنه وقام مقامه. وهو ما يقاوِد سياق الكلام.
17- قال في (ص152): (حتى أقمتم خبره وحده مقام خبر من يكذب آيًا به).
قلت: لعل صواب (آيًا به) هو (آياته).
18- قال في (ص156): (أو يكون وزيره على جهة المؤازرة والمكاتفة والتعاون على أن كل واحد منهما وزير صاحبه ومعاونه ومكاتفه).
قلت: كذا وقعت (المكاتفة) بالتاء مرتين. وهو خطأ، صوابه (المكانفة) بالنون، وهي المعاونة والمعاضدة. وهي ذائعة في كلام الجاحظ، منه قوله في «العثمانية 36»: (ولا كان من رهطه دُنيا فيُسبَّ بترك مكانفته ومعاونته وإرفاقه»، وقوله في «الحيوان 2/117»: (وأنّ الذي قسم ذلك لا يحتاج إلى المشاورة والمعاونة، وإلى مكانفة ومرافدة، ولا إلى تجربة ورويّة)، وقوله في «مناقب الترك» [رسائل الجاحظ 3/172]: (وعلى حسب ذلك التقارب تكون الموازرة والمكانفة).
وقد علّق هارون على هذا الموضع الأخير بقوله: (المكانفة، بالنون: المعاونة. ومثلها المكاتفة بالتاء، كما في المعجم الوسيط). وهذا غلط منه، فإن (المكاتفة) بالتاء لفظ مولّد لا يعرفه القدماء. وربما تصحَّفَتِ (المكانفة) بالنون في بعض الكتب إلى (المكاتفة) بالتاء.
وقد رسمها بهذه الصورة الخاطئة في «مناقب الترك» [رسائل الجاحظ 1/14] وفي «رسالة في نفي التشبيه» [رسائل الجاحظ 1/292].
ولفظ (المكانفة) بالنون فاشٍ أيضًا في لسان أهل ذلك العصر، من ذلك قول يزيد بن الوليد (ت126هـ) في خطبته التي نقلها الجاحظ في «البيان والتبيين 2/142»: (فإن أنا وفيت فعليكم السمع والطاعة وحسن الموازرة والمكانفة)، وقولُ هارون الرشيد (ت193هـ): (... بما التمس به أمير المؤمنين اجتماع ألفتهما ومودّتهما وتواصلهما وموازرتهما ومكانفتهما على حسن النظر لأنفسهما) [تاريخ الطبري 8/284، تح محمد أبو الفضل إبراهيم]. وقد اجتمع في كلا النصين لفظا (الموازرة) و(المكانفة) كما في نصّ الجاحظ.
19- قال في (ص169): (فإذا كان ذلك كذلك فمَن أولى بأن يكون من المخاطبين المطاعين من أبي بكر وخليله وصفيّه).
وعلّق هارون على (وخليله): (في الأصل: «وخاله»).
قلت: الواو مقحمة هنا لأن أبا بكر هو (خليله).
20- قال في (ص169): (... لو جهِدتَ أن تجد...).
كذا ضبط هارون (جهِدت) بكسر الهاء. ولم تُضبط في المخطوط. وهو خطأ شائع. والصواب (جهَدت)، من باب (نَفَع).
21- قال في (ص170): (وادّعوا أن هذه الأخبار كلَّها باطلٌ).
والصواب (كلُّها) بالرفع ليكون (باطل) خبرًا لها لأنها إذا نُصبت توكيدًا لـ(الأخبار) وجب أن يقال: (باطلة) ليقع التطابق بين المبتدأ والخبر لوقوعها حين إذ خبرًا عن (هذه).
22- قال في (ص173): (إن كنت على يقين أنك أولى بها فاجعلها شورى، بيعه وحق دعواك من باطله).
وعلق هارون على آخر هذا الكلام بقوله: (كذا في الأصل).
قلت: هذا رسمها في المخطوط:
وقد تكون محرّفة عن (فاجعلها شورى يتميز (أو يتبين) حقّ دعواك من باطله) أو (باطلها).
23- قال في (ص176): (فهذا إلى أن يكون حجةً عليكم أقربَ).
والصواب (أقربُ) بالرفع لأنه خبر (هذا).
24- قال في (ص178): (فأقبل عليهم سهيل بن عمرو واعظًا ومعرِّبًا ومذكّرًا).
وعلق في الحاشية: (التعريب: التبيين والإيضاح).
قلت: لفظ (التعريب) ليس من معهود كلام الجاحظ. ولعل الصواب (ومعرِّفًا)، يشهد بذلك قوله قبلُ (ص79): (أو خائض مستريب يحتاج إلى التعريف). وهو بمعنى تفسير هارون للتعريب. وقوله أيضًا بعدُ (ص199): (فبدرهم بالخطبة محتجًّا عليهم ومعرّفًا لهم مواضع غلطهم). وقال في «الحيوان 1/37»: (وهذا كتاب موعظة وتعريف وتفقّه وتنبيه)، فجمع بين (الموعظة) و(التعريف) كما جُمع في موضعنا هذا بين (الواعظ) و(المعرِّف). وقال أيضًا في «الحيوان 1/44»: (وهو البيان الذي جعله الله تعالى سببًا في ما بينهم، ومعبّرًا عن حقائق حاجاتهم، ومعرّفًا لمواضع سدّ الخلّة ورفع الشبهة).
25- قال في (ص197): (ومن رجل شديد في بأسه ضعيف في دينه مخِفّ في ذات يده بعيد الهمّة حاملٍ في هدوء الناس وأمنهم).
قلت: (حامل) تصحيف، صوابه (خامل) بالخاء، يدلّ على ذلك قوله في السطر الذي يليه: (يرى أن في الهْيج ظهور نجدته وخروجه من الخمول إلى النباهة). وليس لـ(حامل) معنًى.
26- قال في (ص200): (فما معنى قول أبو بكر).
صوابه (أبي بكر). وكذا هو في المخطوط.
27- قال في (ص204): (ولو أن الأنصار كانوا قد سلّموا للمهاجرين في البدء فلم يفارقوا، ولم يتمادَوا...).
قلت: (ولم يتمادوا) تصحيف. والصواب (ولم ينحازوا)، يشهد بذلك قوله في «مقالة الزيدية والرافضة» [رسائل الجاحظ 4/315]: (ثم الذي كان من اجتماع الأنصار حيث انحازوا من المهاجرين وصاروا أحزابًا). ويجوز أن تُقرأ أيضًا (ولم ينمازوا) أي لم يتميزوا عنهم وينفصلوا. وهو من ألفاظه، فقد قال بعدُ (ص264): (وإنما البلية العظمى والداهية الكبرى أن تنماز العامّة حتى يصير بعضها مع الخاصة، وبعضها مع البغاة والظلمة). ويجوز أن يكون اللفظان لفظًا واحدًا فتصحّف في أحد الموضعين المذكورين.
28- قال في (ص205): (كما ترى من فضل حال المنيع الرهط الجميل الرُّواء والمعافى في بدنه الكثير المال على الذليل الرهط الذميم في رُوائه المبتلَى في بدنه القليل ذات اليد).
قلت: (الذميم) كذا في النشرة، وكذا هي في المخطوط. وهي تصحيف، صوابها (الدَّميم). وكثيرًا ما يقع الخلط بين (الذَّميم) و(الدَّميم). وفرقُ ما بينهما أن (الدّميم) بالدال: القبيح الصورة. و(الذميم) بالذال: المذموم لأي سبب كانَ. والمراد هنا (الدّميم) لأنه قال: (في رُوائه). والرُّواءُ: المنظرُ. وقابله أيضًا بالجميل الرُّواء.
ومثلُه البيت المشهور لأبي الأسود الدّؤَليّ:
كضرائر الحسناء قلن لوجهها ** حسدًا وبغيًا: إنه لدميمُ
فإن صواب روايته (دَميم) بالدال.
29- قال في (ص211): (وكان لا يرى أن الفروسية أصل للإمامة).
قلت: (الفروسية) كذا كتبها هارون، وكذلك هي في المخطوط. وهي تصحيف، صوابها (القُرَشيّة) كما هو ظاهرٌ من المعنى.
30- قال في (ص214): (إنما هذا زَبْد من زَبْد الشيطان).
وعلق هارون في الحاشية: (الزَّبد، بالفتح [أي فتح الزاي وسكون الباء]: الرفد والعطاء).
قلت: صوابه (زَبَد من زَبَد الشيطان) بفتح الزاي والباء، أي هو مثلُ زبد السيل لا محصول له ولا بقاء، بل يذهب جفاءًا.
31- قال في (ص221): (والذين نحلوا عمر العصبية رجلان: رافضي أحبّ أن يَمْقُته إلى العجم والموالي...).
صوابه (يُمقِّته) أي يجعله ممقوتًا.
32- قال في (ص238): (... وجعل إليه طلاق نسائه وأنه قسـم النار).
وعلّق هارون في الحاشية: (كذا في الأصل).
قلت: صوابه (قسيم النار). وهو حديث يُنسب إلى عليّ رضي الله عنه. والتمسْه مع تأويله في «غريب الحديث 2/150، تح الجبوري» لابن قتيبة وفي غيرِه.
33- قال في (ص239): (إن أبا بكر كان مع النبي في الغار، وقد نطق به القرآن وثبّته الإجماع).
قلت: (وثبّته) غير منقوطة في المخطوط. ويجوز أن تُقرأ (وبيّنه). ولعله أليقُ.
34- قال في (ص240): (فلم يُنكِر ولم يحتجّ ولم يفرَق ولم يتعجّب).
علّق هارون في الحاشية على (يفرق) بقوله: (الفرق: الجزع. في الأصل «ولم يعرف»).
قلت: ما في الأصل هو الصواب. وتُضبط هكذا (ولم يُعرِّف)، أي لم يبيِّن حقيقة الأمر. وانظر الكلام على هذا اللفظ في الملحوظة (24).
35- قال في (ص241): (إن في تسمية بنيه بأسمائهم دليلٌ على تعظيمه لهم).
والصواب (دليلًا).
36- قال في (ص245): (وحكم الإسلام غالٍ).
قلت: تابع هارونُ في رسم (غالٍ) بالغين المخطوطَ. والصواب (عالٍ) بالعين.
37- قال في (ص254): (... لم يبق حمّال أغثر ولا يطاف غثّ ولا خامل غُفل ولا غبيّ كهام ولا جاهل سفيه إلا وقف عليه ولاحاه...).
وعلق هارون على (يطاف) بقوله: (كذا في ب. والحرف الأول مهمل في الأصل).
قلت: لعل صوابها (بَطّال). ثم وجدت هارون أصلح ذلك إلى (بطّال) في «مقالة العثمانية» [رسائل الجاحظ 4/40] وعلّق على ذلك بقوله: (البطّال: ذو الباطل... وفي النسختين وع [وهو رمز نشرته من كتاب العثمانية]: «يطاف»، ولعل وجهه [ما] أثبتُّ).
38- قال في (ص271): (فإن كانوا إنما حكموا على الله بفعل ذلك لأنه أسلم لهم من الخطأ وأبعد لهم من الغلط إلا أنهم قد وجدوا بذلك خبرًا قائمًا...).
الصواب (لا أنهم وجدوا ...) وليس (إلّا) كما يوجب ذلك تفهّمُ معنى الكلام.
وقد تمّ بذلك ما وقفت عليه من الملحوظات على هذه النشرة.