الثلاثاء، 16 يونيو 2020

شرح حماسية معن بن أوس المزني

نُشر في التلجرام في قناة (مختارات شعرية للحفظ) وفي فسبك وتويتر في 17/ 10/ 1441هـ.

* القصيدة([1]): 
قال معن بن أوسٍ المُزَنيّ([2]): [بحر الطويل] 
1- لعَمرُكَ ما أدري – وإني لأوجَلُ - ** على أيِّنا تَعدو المَنيّةُ أوّلُ 
2- وإنّيْ أخوكَ الدّائمُ العهدِ لم أَحُلْ ** إنَ ابزاكَ خصمٌ أو نَبا بكَ مَنزِلُ 
3- أحاربُ مَن حاربتَ من ذي عداوةٍ ** وَّأحبِسُ ماليْ إن غَرِمتَ فأَعقِلُ 
4- ستَقطعُ في الدُّنيا إذا ما قطعتَني ** يمينَكَ، فانظرْ أيَّ كَفٍّ تَبَدَّلُ! 
5- وفي النّاسِ إن رَّثّتْ حِبالُكَ واصلٌ ** وَّفي الأرضِ عن دارِ القِلَى مُتحوَّلُ 
6- إذا أنتَ لم تُنصِفْ أخاكَ وجدتَّهُ ** على طَرَفِ الهِجرانِ إن كانَ يَعقِلُ 
7- ويَركبُ حَدَّ السَّيفِ مِن أن تَضيمَهُ ** إذا لم يكن عن شَفرةِ السَّيفِ مَزحَلُ 
8- إذا انصرفتْ نفسي عن الشّيءِ لم تَكَدْ ** إليهِ بوجهٍ آخرَ الدّهرِ تُقبِلُ 

* مناسبة الأبيات: 
كان معنٌ قد تزوَّج بأخت صديقه، فاتّفق أن طلقها معنٌ، فهجرَه صديقُه وحلَف لا يكلمه أبدًا، فقال معنٌ هذه الأبيات يعاتبه ويستعطفه. 

* شرح الأبيات: 
1- لعَمرُكَ ما أدري – وإني لأوجَلُ - ** على أيِّنا تَعدو المَنيّةُ أوّلُ 
- التفسير([3]): 
أ- اللفظ: لَعَمْرك: العَمْر بفتح العين معناه العُمر، أي مدةُ الحياة. ولا يُستعمَل في القسم إلا بالفتح. أوجَل: من الوجَل، وهو الخوف. ويجوز أن يكون في هذا البيت فعلًا مضارعًا، أي: وإني لأخافُ. أو أفعلَ تفضيل، أي: وإني لأخْوَفُ منك. وحذفَ (منك)، وهو جائز. أو صفةً مشبَّهة، أي: وإني لخائفٌ، فيكون بمعنى (وجِلٍ). وهو الراجح. ونظيره (أعمى) و(عمٍ)، غير أنهم لم يقولوا في مؤنثه: (وجلاء) كما قالوا: (عمياء). 
ب- التركيب: جملة (وإني لأوجلُ) معترضة بينَ الفعل (أدري) ومفعولِه الذي هو جملةُ (على أيّنا تعدو المنية أوّلُ). 
يقول: وحياتِك يا صاحبي لا أدري أيُّنا يفجؤه الموت قبل الآخر. وإني لخائف وجِلٌ من كلا الاحتمالين. 
- التأويل([4]): أراد أن يقول لصاحبه: اعلمْ يا صاحبي أن حالنا لا تخرج عن أحد أمرين: فإمّا أن أموت قبلك، وإما أن تموت قبلي، فإن متُّ قبلك لم تلبث أن تندم على صرمك لي وزهادتك في إخائي، وذلك أن الموت من ما ينزِع البِغضة ويقطع المنافسة ويوجب الشفقةَ ويدعو إلى التنويه بمآثر الميّت ويدلّ على حاقّ قدره وعلى مكانه الذي كان يسدّه ويملؤه. وقد ألمعَتِ الشعراءُ إلى هذا المعنى، فمنه قول تأبّط شرًّا: 
لتقرعنّ علي السِّنَّ من ندَمٍ ** إذا تذكّرتَ يومًا بعضَ أخلاقي 
وقولُ عَبيد بن الأبرص: 
لا أعرفنّك بعد الموت تندُبني ** وفي حياتيَ ما زوّدتني زادي 
وإن متَّ قبلي كان افتراقنا عن قِلًى لا ودَّ بعده، وعن هجرٍ لا وصل يمحو أثرَه، وعن سُخط لا مستعتَب منه، وكان آخرُ أمرنا بعد هذه العشرة الطويلة وهذا الإخاء الوثيق التدابرَ والشحناء، وإنما الأمور بخواتيمها. وإني لوجلٌ مشفق من كلا الأمرين اللَّذَينِ لا أدري أيُّهما يقع أولُ. 
- النقد([5]): أحسن الشاعر في استفتاحه القصيدةَ بهذا البيت، وذلك أنه ذكَّرَ صاحبه بفجاءة الموت ووشْكان الرحيل وحَتْم الافتراق، وأخَّرَ تعدادَ فضائله معه والتنويه بحسن بلائه وصدقِ إخائه إلى البيت الثاني، وذلك كي يستميل قلبه ويسكّن من نافر إقباله أوّلًا لأن للموت هيبةً ترتدع منها النفوس وتخشع لها القلوب. وعلِمَ أن ذكره هذا للموت مستلزمٌ للتذكير بسالف الإخاء، والتحذير من القطيعة والبغضاء. ولو ابتدأ الأبيات بعدِّ فضائله وشواهد أخوَّته لم يأمَن أن يَهيج ذلك صاحبَه فيغريَه بالمراء والمكابرة فيدافعَه عن بعض ما ادّعاه أو يوردَ عليه مثله أو أزيد منه. 
ومن محاسنه أيضًا لُطف الاعتراض بقوله: (وإني لأوجلُ)، إذ نبّه بذلك على أنه خائف من كلا الأمرين: أن يموت صاحبُه قبله، وأن يموتَ هو قبل صاحبه. واحترس بذلك من أن يُظنّ أنه يودّ لو مات قبل صاحبه فيعرفَ قدرَه بعد موته ويندمَ على ما فرطَ منه في حقّه، أو يُظنّ أنه يودّ لو مات صاحبُه قبله استعجالًا لفراقه والتماسًا لنسيان ذِكَراته معه وتشفّيًا منه لسوء جزائه، بل هو خائفٌ أن يموت صاحبُه قبله فيخسرَ مودته، وخائفٌ أيضًا أن يموت قبل صاحبه فلا يعرف صاحبه قدرَه إلا بعد موته. والصُّلح أحبّ إليه، والتراضي آثرُ عنده. وفي هذا استرقاقٌ بالغ وتلطُّف بديع. ثم أحسن أيضًا الإحسان كلَّه بأن جعل هذه الجملة معترضة في جوف قوله: (ما أدري على أيّنا تعدو المنية أولُ) ليعرِّف صاحبه من أول الكلام احتراسَه هذا ويبيِّن له إشفاقه من نزول الموت بأحدهما وينفيَ عنه ما قد يسبِق إلى قلبه من توهّم رغبته في مفارقة أحدهما الآخرَ بالموت. 
ومنه دقّة وصفه لمجيء الموت إذ جعله عدوانًا، وذلك قوله: (تعدو المنيّة)، فشبّهه في فجاءته وفي سرعة حلوله بالأسَد حين يعدو على فريسته وينقضّ في إثرها. ومعلومٌ لمن شاهد ذلك منه أنه يكون في غاية الفجاءة وسرعة الوثبة وعن تمام الاستخفاء وشدّة المخاتلة. ومن ذلك قول الفِند الزِّمّاني، في إحدى الروايتين: 
مشَينا مِشية الليثِ ** عدا واللّيثُ غضبانُ 
وأنكرها المرزوقيّ، وآثر عليها رواية (غدا). وفي ذلك نظر. 
وقولُ عبد يغوث الحارثي: 
وقد علمتْ عِرسي مُليكة أنني ** أنا الليثُ معديًّا عليه وعاديا 
وإنما أراد الشاعر من وراء ذلك حثَّ صاحبه على تلافي الأمر وعلى المبادرة إلى الصلح محاذرةً من أن يثِب الموت عليهما مغترَّينِ فيخطَفَ أحدَهما. 
ورُوي (تغدو المنيّة). والرواية الأولَى أشعر وأجود خلافًا للنمَريّ.  
ومنه براعة الإيجاز، فإنه استطاع أن يطوي في هذا البيت كلا الاحتمالين اللذين ذكرتُ، وذلك في قوله: (ما أدري على أيّنا تعدو المنية أولُ). وقد أغنته هذه اللمحة المقتضَبة عن الإسهاب في بيانهما إذ أمكنه أن يدلّ عليهما باللزوم. وفي هذا من حُسن الخطاب وتمام الرِّفق ومن حسم دواعي المنازعة والمجاذبة ما لا يخفَى. 
2- وإنّيْ أخوكَ الدّائمُ العهدِ لم أَحُلْ ** إنَ ابزاكَ خصمٌ أو نَبا بكَ مَنزِلُ 
- التفسير: 
أ- اللفظ: لم أحُلْ: لم أتحوّل أو أتغيّر، من (حال يحول حَولًا وحُئولًا). إنَ ابزَاكَ: أصله (إنْ أبزاك) فحُذفت همزة (أبزاك) ونقِلت حركتها إلى النون الساكنة قبلها. وهي لغة بعض الحجازيين. وأبزاك: أثقلك وأعياكَ. والظاهر أنه مشتقّ من بزِيَ الرجلُ يبزَى، فهو أبزَى: إذا تقدَّم صدرُه وتأخّر ظهره ودخلَ. وهو ضدُّ الأحدب، فكأن معنى (أبزاك) جعلكَ أبزَى بإثقال ظهرك بالتكاليف والمطالب، على تشبيهها بالمحسوس الذي يُحمل على الظهر. وهي قريبة من معنى (آده يئوده). وهذا أصحّ من تفسيره بـ(غلبك وقهرك). ومنه قول الفرزدق: 
إن كان أنفُكَ قد أبزاكَ محملُه ** فاركبْ أتانَكَ ثم اخطُبْ إلى زِيقِ 
نبا بك: إذا جعلك تنبو. والذي أراه أن الباء هنا بمعنى التعدية، فهي بمعنى (أنباك) كما قالوا: (ذهب به وأذهبه). ونبوّ المرء عن منزله هو أن يمتنع عليه القرار والاطمئنان فيه لأذًى أو همّ. 
ب- التركيب: يقول: أنا صاحبك الذي تعرف، لم أتغيّر عن ما عهدتَّني عليه من الغوث والنجدة متى ما أثقلك خصم أو أقلقك منزل. 
- التأويل: لما فرغ من تحذير صاحبه فجاءةَ الموت وتفريقَه بينهما، وبَعَثَه بالإيماء الرفيق على تذكُّر حسن صنيعه معه وصدقِ ولائه له رأى أن السبيل قد تمهَّدت له ليصرِّح بما أومأ إليه، فذكّر صاحبه بأنه أخوه الثابت الإخاء، الدائم المودّة، الحاضر النّجدة، وأنه لا يزال على ما عهِده عليه لم يتغيَّر، وأنه إن احتاج إليه في أوقات الشدّة وجده سريعًا إلى معونته منحازًا إلى صفِّه قائمًا بنصرته، وذلك إذا أعياه خصمه وثقُل عليه أو لم يطمئن به منزله من ما يجده فيه من الأذى والإهانة. ونظير ذلك قول لبيد في معلقته: 
ترّاكُ أمكنةٍ إذا لم أرضَها ** أو يَعتلقْ بعضَ النفوسِ حِمامُها 
وقولُ امرئ القيس: 
وإذا أَذِيتُ ببلدةٍ فارقتُها ** ولا أقيمُ بغير دار مُقامِ 
وقول عبد قيس البُرجميّ: 
واتركْ محلَّ السّوءِ لا تحلُلْ به ** وإذا نبا بك منزلٌ فتحوَّلِ 
- النقد: أحسن الشاعر في إيثاره التعريفَ حيث قال: (أخوك الدائم العهد)، ولم يقل: (أخٌ لك دائم العهد)، فكأنه يقول: إن يكن لك أخٌ دائم العهد معروف بذلك فأنا الأخ الدائم العهد. ولست أخًا منكورًا من جملة الإخوان وحسبُ. وأحسنَ أيضًا في تعبيره عن الوفاء بدوام العهد ثم في توكيده لذلك بقوله: (لم أحُلْ) مع أن دوام العهد مقتضٍ له ومغنٍ عنه، إذ أراد لِيقول لصاحبه: إن حُلتَ أنت عن العهد فقطعتني وتغيّرت عليّ أو توهّمت أني تغيّرت فأنا لم أحُلْ ولم أتغيّر. وهذا من التوكيد البليغ الموافق لموضعه. 
والرواية المعروفة (إنَ ابزاكَ خصمٌ). وروَى بعض العلماء (إنَ ابزاكَ خطبٌ). وأراها أصحّ وأسَدّ لأن الذي يُثقِل ظهرَ المرء ويُعييه هو الخطبُ، أي المصيبة أو المشكلة، وليس الخصم، إذ الخصم إنما يوصف بالمحاربة أو الإيذاء. على أنّ الكريم يأنَف أن يقول له قائل: (إن غلبك خصمك أو أعياك فأنا أنجدك)، ويأبَى أن يُنسب إلى ذلك أو يقِرَّ به لأن هذه صفة الأذلّة المستضعفين. هذا مع أن في انتحال هذا القائلِ النجدةَ والمعونةَ وادعائه أنه هو المخلّص له والمفرّج عنه إنزالًا لنفسه منزلةَ القويّ وإنزالًا لصاحبه منزلةَ المستضعَف الذليل. وهذا خطَل من القول، ونقضٌ للغرض من الأبيات، فبعيدٌ أن يكون هو ما قاله هذا الشاعر. 
3- أحاربُ مَن حاربتَ من ذي عداوةٍ ** وَّأحبِسُ ماليْ إن غَرِمتَ فأَعقِلُ 
- التفسير: 
أ- اللفظ: مالي: المالُ هنا الإبل. وكذلك هو معناه إذا أُطلق في كلام العرب. غرِمتَ: الغُرم ما يلزم المرءَ سدادُه من دين ونحوِه في غير جناية. أعقِل: أدفع العَقْل عنك، وهو الغرامة. 
ب- التركيب: يقول لصاحبه: أحاربُ من تحاربه من أعدائك. وإذا أصابتك غرامة منعت إبلي أن تخرج للمرعى وقضيتُ بها غرامتك. 
- التأويل: لما بيّن في البيت السابق صدق إخائه لصاحبه وصحّةَ وفائه وقيامَه بنجدته في أوقات الشدّة فسّرَ ذلك في هذا البيت فذكَر أنه يبذل له أنفس ما يُبذَل، وهو النفس والمال، فأما نفسُه فإنه يجود بها للمناضلة عنه والقتال معه. وأما مالُه فإنه يهُون عليه أن يؤديَه عن صاحبه متى أثقله المغرَم وطولِب بالأداء. 
- النقد: أحسن الشاعر في قوله: (أحارب من حاربت) إذ جعل نفسه تابعًا لصاحبه وجعل إرادته منقادة لإرادته، وجعل صاحبه هو المبتدئ للحرب المقتدحَ لزَندها، فهو له كما قال المتنخِّل الهذلي: 
إذا سدتَّه سدتَّ مِطواعةً ** ومهما وكلتَ إليه كفاهُ 
وهذا من ما يَزيدك شكًّا في الرواية السابقة (إنَ ابزاك خصم) لأنها تصوِّره بصورة البطل القويّ المخلِّص وتصوِّر صاحبه رجلًا ضعيفًا مقهورًا. وقولُه: (من ذي عداوة) ليس بالجيّد لأنه إن يكن صاحبه لا يُحارِب إلا ذا العداوة فهو حشو لا طائل منه. وإن كان قد يحارب غيرَ ذي العداوة فهو اشتراطٌ غير مستحسَن لأن غاية النصرة في مذهب الشعراء ممالأةُ الصديق لصديقه وإنجادُه والانضواء إلى صفّه من غير شرط ولا تردّد ولا سؤال. وعلى ذلك قول الحماسيّ: 
لا يسألون أخاهم حين يَندبُهم ** في النائبات على ما قال برهانا 
وقول الحماسي الآخر: 
إذا استُنجدوا لم يسألوا من دعاهمُ: ** لأيّة حربٍ أم بأيّ مكانِ؟ 
وهم يذكرون مثل ذلك في خِصال الكرم. ومنه قول الشاعر: 
لا ينكتُون الأرض عند سؤالهم ** لتطلّبِ العِلّات بالعِيدانِ 
وأسلَم من بيت معْنٍ وأحسنُ إيجازًا قولُ الحماسيّ الآخر: 
أخوكَ أخوكَ من يدنو وترجو ** مودّتَه وإن دُعيَ استجابا 
إذا حاربتَ حاربَ من تعادي ** وزاد سلاحُه منك اقترابا
إذ وضعَ (تعادي) موضع (تحارب) وبرَأ من التَّكرار والحشو. 
وقوله: (أحبس مالي) تخيُّر بارع للّفظ، إذ كان يمكنه أن يقول: (وأحبس المال) أو (مالًا)، ولكنه أضاف المال إلى نفسه بياء المتكلّم إمعانًا في الدلالة على تمام الإيثار، فهو يؤثر التفريج عن صاحبه من ماله الخاصّ. ثم لم يقل: (مالًا لي) أو (مِن مالي)، بل قال: (مالي)، فهو (ماله) كلُّه. وفي قوله: (وأحبس) تصوير بديع، إذ لم يقل: (وأدفع مالي عنك) لأنه أراد أن يكشف عن مقدار تقديمه لحظّ صاحبه على حظّ نفسه، فهو يمنع إبله أن تخرج للمرعى مع ما في هذا من فوات التمتّع بجمالهنّ وبهاء منظرهن الذي ذكره الله تعالى في قوله: {ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون} [سورة النحل:6]، ومِن مغالبة المحبّة لهن والطمَع في نمائهن الذي جاء في قوله: {زُيّن للناس حب الشهوات} حتى قال: {والأنعام} [سورة آل عمران:14]، وتسمحُ نفسه عوضًا من ذلك بأدائهن عن صاحبه ابتغاءَ التنفيس عن كربه والقضاءِ لذمامه!
4- ستَقطعُ في الدُّنيا إذا ما قطعتَني ** يمينَكَ، فانظرْ أيَّ كَفٍّ تَبَدَّلُ!
- التفسير: 
أ- اللفظ: تَبَدَّلُ: مضارع (تبَّدلَ). وأصله (تَتبدَّلُ)، فحُذفت إحدى التاءين جوازًا. وذلك كثير في القرآن وفي كلام الفصحاء نحو قوله تعالى: {نارًا تلظّى} [سورة الليل:14] أي: تتلظَّى، وقوله: {ولا أن تَبَدّل بهن من أزواج} [سورة الأحزاب:52] أي: تتبدّل. ولا تُستعمَل في الفصحى المعاصرة، ولكنها مستعمَلة في العامّيّة! 
ب- التركيب: يقول لصاحبه: إنك إن قطعتني في هذه الدنيا فكأنما قطعت يمينك، فانظر هل تجد من كفٍّ تحلّ محلّها وتغني غَناءها! 
- التأويل: لما صدّر أبياته بتذكير صاحبه بتفريق الموت بينهما واستفتح خطابه بالإيماء والكناية ثم تحوَّل بعد ذلك إلى التصريح والإبانة فعَدَّ عليه آيات إخائه وعرّفه صدقَ مودّته في الماضي والمستقبَل تجاسر قليلًا على الإيغال في التصريح بعد أن ألقَى إليه ما هو حقيق أن يستميل به قلبه وبعد أن اطمأنّ إلى نَفاق ذلك عليه وتأثّره به، فأدلّ عليه بعض الإدلال فحذّره عاقبة فراقه إياه في حياتهما كما حذَّره في البيت الأول عاقبةَ فراقه بعد موت أحدهما. وقوله: (إذا ما قطعتَني) يُراد به (إن استمررتَ على قطيعتي) لأنه قد كان قطعَه، فهو نظير قوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم} [سورة الفاتحة:6]، يقول لصاحبه: إن استمررت على قطيعتي كنتَ كما لو قطعت كفّك اليمنى، لأن الكفّ أداة العمل ومحلّ التصرّف. وجعلَها اليمنى لأنها أشرفُ وأكثر نفعًا. ومن ذلك قول ابن الدمينة:
أبِيني أفي يُمنَى يديكِ جعلتِني ** فأفرحَ أم صيّرتِني في شِمالكِ([6])
فجعل اليمنى دليل الرفعة، والشِّمالَ دليل الضّعة. 
وقولُ الآخر: 
فأنت امرؤ كلتا يديكَ مفيدةٌ ** شِمالُك خيرٌ من يمين سِواكا
ثم سأله أن يفتِّش وينظر أيجد صديقًا يقوم مقامه ويغني عنه؟ وقد علم أنه لن يجد. 
- النقد: جمعَ الشاعر في هذا البيت إلى تحذير صاحبه الندمَ على صرمه بعد الموت تحذيرَه الندمَ على ذلك قبل الموت أيضًا، فسدّ عليه المخارجَ ولم يدع له متنفَّسًا يلوذ به ويُخلد إليه. وهذا بيانٌ عالٍ. وقد اختار الشاعر لفظَ (قطعتني)، ولم يقل: (هجرتني) أو (صرمتني) ليستوفيَ تشبيه الهجر بقطع اليمين، فكأنه يقول: (قطعك لي هو قطع ليمينك)، فانظر كيف تأتّى له أن يجمع بين اللفظين مع أن القطع الأول بمعنى الهجر، والقطع الثاني بمعنى البتر الحسِّي، ثم انظر كيف سخّر ذلك في إحكام التشبيه وعقد المشاكلة. ولو قال: (إذا ما هجرتنَي) لسقط شطرُ الحسن من هذا البيت. ومن محاسنه أيضًا اختياره لفظَ (يمين) دون (كفّ) لما ذكرتُ لك آنفًا من فضيلة اليمنَى وكثرة منافعها. ثم قال: (فانظر أيّ كفٍّ تبدّل) بصيغة الأمر فالاستفهامِ، فأمر صاحبه أن ينظر: هل من كفٍّ يستطيع أن يتبدَّلها بيمينه؟ وقد أيقن أن صاحبه لن يستطيع ذلك، ولكنه أحبَّ أن يكون هو المجيب عن ذلك وبعد النظر والبحث ليكون ذلك أدعى لتسليمه وإذعانه، وأنفَى لمكابرته.
5- وفي النّاسِ إن رَّثّتْ حِبالُكَ واصلٌ ** وَّفي الأرضِ عن دارِ القِلَى مُتحوَّلُ
- التفسير: 
أ- اللفظ: رثَّت: قدُمت فبلِيت وضعُفت. القِلى: البغض. ومنه {ما ودعك ربك وما قلى} [سورة الضحى:3]. مُتحوَّل: اسم مكان من (تحوَّلَ)، أي مكان يُتحوَّل ويُنتقَل إليه. 
ب- التركيب: يقول: إن ضعُف وصلك أو انقطع ففي الناس أبدالٌ منك. وإن ضاق عليّ المُقام بأرضك التي أجدُ فيها البغض والأذى انتقلت عنها إلى أرض غيرِها. 
- التأويل: كأن الشاعر حين عرَّف صاحبَه مقدارَ ما سيلحقه من الخُسْر بتفريطه في حقّه وتجافيه عن صلته توهّمَ أن صاحبه قد يقول في نفسه: (وأنت أيضًا يا معنُ سيلحقُك من ذلك ما يلحقني) فعطفَ عليه بهذا البيت فقال: أنت أشدُّنا خُسرًا لما جرّبتَه من موالاتي لك ومسارعتي إلى نصرتك. وأما أنا فإني وإن كرهتُ القطيعة وأحببت استئناف المودّة ومراجعة الصِّلة فلا تظنّنّ إن أبيتَ إلا قطيعتي أني لن أجد أخًا أعتاضه منك أو أصيبَ أرضًا تحملُني عنك. 
- النقد: قدَّم الشاعر في هذا البيت لفظَي (الناس) و(الأرض) ليوكّد معنى الاستغناء عن صاحبه إن أصرّ على الهجر والقطيعة. 
6- إذا أنتَ لم تُنصِفْ أخاكَ وجدتَّهُ ** على طَرَفِ الهِجرانِ إن كانَ يَعقِلُ([7])
- التفسير: 
- التركيب: يقول: إن لم ينصف المرء أخاه من نفسه ولم يقض حقوقه عليه فإنه لن يلبث أن يراه مائلًا إلى هجره ومختارًا لمفارقته على صحبته إن كان له عقل يحجزه عن الإقامة على الذلّ والرّضا بالظلم. 
- التأويل: بدأ الشاعر أبياته مترفّقًا بمخاطبة صاحبه حتى إذا ألقَى إليه ما تنهض به الحجّة عليه من تذكيره بأدلّة صدقه وآيات مودّته وتعريفه عظَمَ غَنائه لدَيه وشدّةَ حاجته إليه، هاجَه ذلك على الأنفة لنفسه أن تحمله المعاتبة والاستعطاف على إذلالها والإزراء بها فجنح إلى التعزُّز والتأبّي وإظهار الاستغناء وإلى الإمعان في التحذير فأخبر صاحبه أنه إن أقام على جفائه له وقلّة إنصافه معه فسيجده مُشفيًا على الهِجران صائرًا إليه، وذكرَ له أن هذا هو مقتضَى العقل. وإنما قال: (على طرَف الهِجران) ولم يقل: (على الهجران) أو (هاجرًا لك) ليبيِّن له أنه لا يزال مواصلًا له وأنه لمّا يهجره مع قلّة إنصافه له، وليدلَّه بذلك أيضًا على إمكان تدارك الأمر ومعاودة سالف الإخاء. 
- النقد: من محاسن هذا البيت أن الشاعر جعل الخطاب عامًّا فقال: (إذا أنت لم تنصف أخاك) ولم يقل: (إذا أنت لم تنصفني). و(أنت) هنا ليست خطابًا لمعيَّن في ما أرى، بل هي مثل (أنت) في مثل قول امرئ القيس في معلّقته، في إحدى الروايتين:
وأنت إذا استدبرتَه سدَّ فرجَه ** بضافٍ فُويق الأرضِ ليس بأعزلِ
يريد معنى (ومَن استدبرَه). ومنه أيضًا قوله تعالى: {وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين} [سورة الكهف:17]، أي (ومن يرى الشمس حين إذٍ يراها تَزَاورُ). وإنما اختار الشاعر هذا الأسلوب ليجعل القضية عامّة والحكم شاملًا له ولغيره، وذلك كي يبرّئ نفسه من تُهمة الجنَف والتحيّز وليكون أدعى للرضا والقبول. ثم ذيّله بقوله: (إن كان يعقل) ليبيِّن سبب الإشراف على الهجران، وهو أن ذلك من ما يوجبه العقل من لزوم خصال الأنفة ومنابذة دواعي المذلّة والمهانة. وفي ذكره لهذه العلّة حسنُ تتميم للعذر. 
7- ويَركبُ حَدَّ السَّيفِ مِن أن تَضيمَهُ ** إذا لم يكن عن شَفرةِ السَّيفِ مَزحَلُ([8])
- التفسير: 
أ- اللفظ: تَضيمه: تظلمه. مَزحَل: اسم مكان من (زحَل يزحَل) إذا تنحّى وتباعد. ويقال: (زحَل له عن موضعه) إذا فسحَ. مِن أن تضيمه: معنى (مِن) هنا البدل، أي (بدلَ أن تضيمه). ومنه قوله تعالى: {أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة} [سورة التوبة:38]. 
ب- التركيب: يقول: وإنّ المرء العاقل أيضًا ليحمله إباءُ الظلم وكراهيةُ الإقامة عليه على أن يفرّ منه وإن أفضى به ذلك إلى احتمال المشاقّ الممضّة التي في ركوبها من الإيلام والإضجار وامتناعِ الاطمئنان مثلُ ما في ركوب حدّ السيف إن هو لم يجد بدًّا من ذلك يَزحَل إليه. 
- التأويل: كأنّ الشاعر أجاب عن اعتراض خشي أن يَحيك في صدر صاحبه، وهو أن يقول صاحبُه: ولكنك إن اعتضتَ منّي صاحبًا غيري ومن أرضي أرضًا أخرى فإنك واجدٌ من مرارة فقدي مثلَ ما حذّرتَني من مرارة فقدك، فلستَ بأهوننا خسارة ولا أيسرنا ألمًا. فأجاب الشاعر عن ذلك بأن فصَل بين الأمرين، فبيَّنَ أنّ أمَرَّ من فقده هو لصاحبه بقاؤُه محتملًا للضَّيم، وأنه متى تبدَّل به غيرَه استحالت هذه المرارة حلاوةً عنده لأنها نقلتْه من مرارةٍ أشدّ منها. وأما هو - أي صاحبُه – فليس أمره كذلك لأنه لم يَلحقه ظلمٌ ولا ناله ضيمٌ من جهته. 
- النقد: من محاسن هذا البيت أنه شبَّه ما يلقاه المرء من احتمال الظلم براكبٍ حدَّ السيف، وذلك أنه لا يطمئنّ البتةَ ولا يقِرّ له قرارٌ، فهو لا يزال يتأذّى ويتململ ويتجافى. وهذا تشبيه بديع. ومنها أنه لما أعاد ذكر (الحدّ) عبّر عنه بـ(الشفرة) لأنهما وإن كانا مترادفين ففي كلّ واحد منهما من الظِّلال والوحْي ما ليس في الآخر، ففي عرضهما على خاطر المخاطب زيادةٌ في توكيد المعنى ومعونةٌ على استحضار صورة اللفظ. على أن في ذلك أيضًا تطرية للسمع ونفيًا للملالة وإتحافًا للمخاطَب. وذلك كثير في كلام الله تعالى وكلام العرب، منه قوله تعالى: {أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين} [سورة المؤمنون:68]، و(جاء) بمعنى (أتى)، وقولُه: {أم تسألهم خرجًا فخراج ربك} [سورة المؤمنون:72] و(الخرج) هو (الخراج). ومنه قول طرفة في معلقته:
فما لي أراني وابنَ عمّيَ مالكًا ** متى أدنُ منه ينْءَ عني ويبعُدِ
و(النأي) هو (البعد). وقولُ عَديّ بن زيد، في إحدى الروايتين: 
وقدّمتِ الأديمَ لراهشَيهِ ** وألفَى قولَها كذبًا ومَينا
و(الكذب) هو (المين).
8- إذا انصرفتْ نفسي عن الشّيءِ لم تَكَدْ ** إليهِ بوجهٍ آخرَ الدّهرِ تُقبِلُ
- التفسير: 
- التركيب: (إليه بوجهٍ آخر الدهر تُقبل). قوله: (بوجه) متعلّق بـ(تُقبل)، أي: تقبل إليه بوجهٍ آخرَ الدهر. 
يقول: إذا عافت نفسي الشيءَ وأدبرت عنه فإنها لا تكاد تُقبل إليه بوجهها أبدًا مرّة أخرى. 
- التأويل: انتهَى الشاعر في هذا البيت إلى الغاية في تخويف صاحبه عاقبةَ إجحافه به وهضيمتِه له وبخسِه لحقِّه. وكأنه أحسّ أن صاحبه قد يستهين بما ذكره آنفًا من تحذيره لأنه ربما توهَّم أنه وإن صار إلى هِجرانه ومباعدته فإنه لا ينشَب أن يرجع إليه ولو بعد حين، فسدّ على صاحبه هذا المنفذ وأغلق عليه باب التعلُّل به فقال له: ولا تتوهَّمْ أني إن هجرتك لسوء صنيعك معي فإني سأعاود وصلَك يومًا، فإن طباعي تأبَى ذلك. واعلمْ أني لست سريعًا إلى القطيعة، ولكن متى اضطُررت إليها وحُمِلتُ عليها انصرفت نفسي عن الشيء وزهدتْ فيه، ومتى وقع ذلك منها فإنها لا تُقبل عليه بوجهها آخر الدهر ومنتهى أمد الحياة. 
- النقد: أجاد الشاعر في نسبته الانصرافَ إلى نفسه فقال: (إذا انصرفت نفسي) ولم يقل: (إذا انصرفتُ)، كأن ذلك أمر خارج عن سُلطان يده، فليس له إلا الطاعة والاتّباع. وهذا على حدّ قولهم: (لا تطاوعني نفسي). ومثلُه بيتُ اللاميّة المنسوبة إلى الشنفرَى:
ولكنّ نفسًا حُرّةً لا تقيمُ بي ** على الضّيمِ إلا ريثما أتحوَّلُ
فنسب إباء الضيم إلى نفسه. 
ثم قال: (عن الشيء) ولم يقل: (عنك) ليكون أبعدَ من التحيّز وأحظى بالقَبول إذ لم يخصُّه بهذا الأمر ولا قصرَه عليه، بل هو عامٌّ فيه وفي غيره، وليكون أيضًا أدلّ على اللزوم والثبات لجريانه في الجميع، فهو بمنزلة العادة الماضية والطبع الراسخ الذي لا يتغيّر ولا يزول.

* بلاغة الأبيات: 
جمع الشاعر في هذه الأبيات المعدودة ألوانًا شتى من الخطاب، وتصرَّف في معانيها بوجوهٍ من التصرُّف، فقد بدأها بالإيماء الليِّن الموادع، ولم يزل يتدرّج حتى ختمها بالتصريح الجريء الصادع، وجمع فيها بين الإيجاز والإطناب، وبين الترهيب والترغيب، وبين الإطماع والإيئاس، وبين التعميم والتخصيص، ووفَّى المعنى حقّه، وقرَن إلى كل شيءٍ لِفقه، فخوّف صاحبَه عاقبة الهجر بعد موت أحدهما، وعاقبةَ الهجر في حياتهما، وعرَّف صاحبه حاجته إليه، ثم أحسن التنصُّل من لزوم حاجته إلى صاحبه، وأحكم عَقد الحجج، وسدّ مخارج الاعتذار، وفرَّق بين المختلفات، وأنزلَ التصوير في موضعه، واستعان بالتقديم والتأخير في محلّه، وتقلّبَ بين الإخبار والأمر والاستفهام للتوصل إلى غرضه، وألطفَ التفهُّم أيضًا لما قد يعتلج في صدر صاحبه، ثم أجاب عن هذا كلِّه بأوضح عبارة وأعذب بيان.

___________________
([1]) كتبتُ شرحَ هذه القصيدة استجابةً لطلب أخي الشيخ سليمان العبودي من أجل نشرها في قناة (مختارات شعرية للحفظ) على هذا الرابط: https://t.me/poetry_sn.
([2]) هو معْن بن أوس المُزَنيّ، شاعرٌ مجيد فحل من مخضرمي الجاهلية والإسلام. له مدائح في بعض الصحابة. كان معاوية يفضّله ويقول: (أشعر أهل الجاهلية زهير بن أبي سلمى. وأشعر أهل الإسلام ابنه كعب ومعن بن أوس). رحلَ إلى الشام والبصرة. وكُفّ بصرُه في أواخر أيامه. مات في المدينة عام 64هـ. وهذه الأبيات من مختار أبي تمام في «ديوان الحماسة» والبصريِّ في «الحماسة البصرية».
([3]) المراد به بيانُ ظاهر المعنى بشرح دلائل منطوقه إفرادًا وتركيبًا، أي بيانُ معنى ما قاله الشاعر باللفظ.
([4]) المراد به بيانُ باطن المعنى أو معنى المعنى أو ظلالِ المعنى، فهو تغلغلٌ إلى تعرُّف ما يريد الشاعر أن يقوله من ما لم يصوِّره لفظه. وتأويل اللفظ في اللغة: تفسير ما يئول إليه معناه.
([5]) المراد به ذكرُ محاسن البيت ومساويه، وغُررِه وعُرَرِه. وكذلك أصلُ معنى (النقد) في اللغة. ولفظَا (الغُرر) و(العُرر) في استعمال المتقدّمين قريبان من لفظَي (الإيجابيات) و(السلبيات) في كلام المحدَثين. وانظر «البيان والتبيين 2/ 22».
([6]) (الشِّمال) للجهة المعروفة بكسر الشين. وفتحُها خطأ شائع. أما إذا أريد بها الرِّيح فإنها بالفتح (شَمال).
([7]) (الهِجران) بكسر الهاء. وضمُّها خطأ شائع.
([8]) تَضيمه: بفتح التاء من (ضامَه ضَيمًا). ولا يجوز ضمّها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق