الثلاثاء، 23 يوليو 2019

مسائل متفرقة في الفروق اللغوية

نُشر مفرَّقًا في ملتقى أهل اللغة وتويتر في أوقات مختلفة.
- يقال: أرّخَه يؤرّخه تأريخًا وتاريخًا [على قياسِ مذهبِ التخفيف]، وورَّخَه يورّخُه توريخًا.
قلتُ: أراه أعجميًّا لأمرينِ: 
الأول: أنه ليس له من الاشتقاقِ ما يشهدُ له. 
الثاني: أنهم ذكروا أن التاريخ قد أخذه العربُ من العجمِ، والعادةُ أنَّ أدواتِ الحضارةِ يتلقّفها الآخذُ باسمِها من أهلِها.
ولمّا كانَ أعجميًّا فقد استعملته العربُ بالواو والهمز لأن العرب تتصرفُ في الكلمِ الأعجميّ ما لا تتصرفُ في غيرِه، من ذلك أنّ في (جبريلَ) ثلاثَ عشرةَ لغةً. ولكونِه أعجميًّا لم يكن مصيبًا من قالَ: إنَّ أحدَهما مبدَلٌ من الآخرِ. ثم إنّ كليهما متصرّفٌ، فكيفَ نعلمُ أن أحدَهما هو الأصلُ؟
أما الترجيحُ بينَهما فإنْ أردتَّ العِلْمَ فالأشهرُ تركُ الهمز (التاريخ) لأنه غلبَ عليه، ربما لأنّ التاريخَ ذاعَ عن قريشٍ وكانوا لا يهمزونَ فتلقاه الناسُ عنهم بلسانِهم كما ذاع لفظُ (النبي) مخفّفًا غيرَ مهموزٍ لهذه العلةِ في ما أرى، إذ الأرجح فيه أن يكون مشتقًّا من (ن ب أ) فيكون (فعيلاً) بمعنى (مُفعِل) أو (مُفعَل). 
وإذا أردتَّ بهِ المصدرَ فالأشهر الهمزُ (التأريخ). 
وإنما سمّوا العلمَ بالمصدر من بابِ المجاز المرسَلِ الذي عَلاقتُه السببيةُ لأن العلمَ هذا لا يكونُ إلا بالمصدرِ.
- (المدح) الثناء على الصفات الخِلقية كالجمال، والاختيارية كالكرم. و(الحمد) على الاختيارية فقط، و(الشكر) على صفة الإحسان من الاختيارية فقط. 
- الصوابُ أنه لا فرقَ بين (الإتيان) و(المجيء). وما ادعاه أبو هلال العسكريُّ في " فروقِه " باطلٌ إذ لا دليلَ على ما زعمَ من حيث الأصلُ، بل الأمر يثبت خلافَه، قالَ الحماسيّ: 
فجاءت به سبطَ العظام كأنما ** عِمامتُه بينَ الرجالِ لواءُ
وقالَ أبو كبيرٍ الهذليّ في "الحماسةِ": 
فأتت به حُوش الفؤاد مبطَّنًا ** سُهُدًا إذا ما نامَ ليلُ الهوجلِ 
فكيفَ عرفَ أن هذا هو الأصل وأن الآخرَ محمولٌ عليه؟ 
ثم لو كانَ ذلك لم يكن له أثرٌ في الكلامِ لأن معناهما في الاستعمالِ واحدٌ، قالَ تعالى : ((قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا )) وقالَ : ((أم جاءَهم ما لم يأتِ آباءَهم الأولينَ)).
أما لِمَ استعملَ القرآن هذا مكان هذا فذلك - والله أعلمُ - من بابِ التنويعِ لما له من الترويح عن النفوسِ والاستمالةٍ للقلوبِ. ومن الخطأ أن يُظنَّ أن لكل شيء من ذلك علةً غيرَ علةِ التنويعِ. وحسبُك بعلة التنويع علةً حكيمة مرعيّة. 
- الكلامُ على إمكانِ الترادفِ في الكلِمِ يطولُ. والصحيحُ الذي أرضاه وأرى العللَ تُسنِدُه وتُظاهره أنه يقعُ في كلامِ العربِ وفي كلامِ الله تعالى. ومن الخطأ أن نقصُرَ البلاغةَ في مسالكَ معدودةٍ، إذ من البلاغةِ التنويعُ. ووجهُ عَلاقتِه بالبلاغةِ مراعاتُه حالَ المخاطبِ بطردِ المللِ واجتلابِ الجِدّةِ في الحديثِ وتجنّبِ التَّكرارِ لما له من ثِقَلٍ على النَّفوسِ. وللمعارضِ لهذا أن يلتمسَ التأويلاتِ، ولكنَّ التزامَه ذلكَ سيفضي بهِ إلى ما هو أشدُّ مما هربَ منه من مَّا لا يَرضاه أحدٌ لكلامِ الله. والذي يدلُّك على ثبوتِ الترادفِ أنَّ الكلمةَ الواحدةَ في السياقِ الواحدِ والغرضِ الواحدِ تُقرأ عدَّةَ قراءاتٍ نحو (نزَّلَ وأنزل)، فلو فرقتَ بينها في المعنى لأسلَمَكَ هذا إلى التناقضِ. وإذا كانت العربيةُ لغةً كسائر اللغاتِ يعتوِرها ما يعتوِرُها، وإذا كانت ليست كلّها منطِقًا خالصًا، وإنما مرجعُها العقلُ البشريُّ بما فيهِ من منطقٍ وتجوّزٍ وتوهُّمٍ وتشبيهٍ فلا بِدْعَ أن يكونَ في العربيةِ الألفاظُ المترادِفةِ، بل لو منعنا مثلَ هذا لأسأنا إلى اللغةِ من حيث أردنا الإحسانَ، وذلك بالاكتفاءِ بلفظٍ واحدٍ للمعنى الواحدِ، فإن هذا ليس بمحمودٍ. وكلامُ الله منزّلٌ على ما يُوافق نِظامَ العربِ في كلامِهم، وإنَّما يمنعُ بعضُهم الترادفَ فيهِ لتوهّمهم أنَّه أمرٌ مذمومٌ. وهذا لا يصِح لمخالفتِه العقلَ والفطرةَ البشريةَ ولأنَّ الترادفَ لهُ علّةٌ وجيهةٌ بيّنّا ذكرَها. ووجدتُّ ابنَ عاشورٍ يقولُ عندَ قوله : ((قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا)): (والإتيان والمجيء مترادفان، فذكرُ المجيء بعد الإتيان ليس لاختلاف المعنى، ولكنه للتفنُّنِ وكراهيةِ إعادة اللفظ) [التحرير والتنوير 4 / 61].
ومن نظائر ذلك أيضًا قوله تعالَى: ((وإن خِفتُم أن لا تُقسِطوا في اليتامَى فانكِحوا ما طابَ لكم من النِّساء مثنَى وثلاثَ ورُباعَ فإن خِفتم أن لا تعدِلوا فواحدةً أو ما ملكت أيمانُكم))، فغايَر بين اللفظينِ (تُقسِطوا) و(تعدِلوا) والمعنَى واحدٌ. 
وقالَ: ((فإن تولَّوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتّموهم)) ثمَّ قال بعدَها بآية: ((فإن لم يعتزلوكم ويلقُوا إليكم السَّلَم ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقِفتموهم)) و(وجدَه) و(ثقِفَه) بمعنًى واحدٍ. 
وقالَ: ((اليومَ أكملت لكم دينَكم وأتممتُ عليكم نِعمتي)) و(الكمال) و(الإتمام) بمعنًى واحدٍ علَى الصحيح. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق