السبت، 27 يوليو 2019

رأي في حفظ المنظومات

نُشر أصله مفرَّقًا في تويتر في أوقات مختلفة.
حفظ المنظومات صالح لمن يريد أن يقتصر في علم ما على مرحلة المبتدئين لا يجاوزها إلى ما هو أعلى منها. فأما من يريد التعمّق في العلم والرسوخ فيه فإن في حفظه للمنظومات أضرارًا كثيرة عليه، منها أنها تمنحه شعورًا خادعًا بالتضلّع العلميّ، إذ يظنّ أنْ ليس بينه وبين إحراز العلم إلا حفظ المنظومة وفهم معانيها، فإذا حفظها اتّكل عليها وزهد في مطالعة الأمهات وفي النظر في كتب المتقدمين ومراجعة أصول العلم، وشغلَتْه عن إدمان النظر وتقليب المسائل، إلا أن يفطن لذلك فلا يقف عندها وعند شروحها، بل يعدّي عنها إلى غيرها. وقلّ من يفعل ذلك. ولهذا لا تكاد تجد مولعًا بحفظ المنظومات مبدعًا في العلم أو مجدّدًا.
ومن مّا يدلّك على ضرر المنظومات أن كثيرًا من حفّاظ المنظومات لا يستحضرون مسائل العلم حتى يستذكروا الأبيات التي تتضمنها من المنظومة، فإذا سألتَه عن مسألة لم يجبك حتى يسرد أبياتها، فإذا سرد الأبيات عرف الجواب، فهو حين سألته كان حافظًا للأبيات خالي الذهن من الجواب الذي هو العلم، فمثله كمثل من يُسأل فيفتح الكتاب فيعرف الجواب، فهو إذن لا يحفظ المسألة مباشرة، وإنما يحفظ الوسيلة التي إذا استعان بها عرّفته المسألةَ.
والطريقة الجيدة للتعلّم هي استظهار متون العلم بكثرة النظر فيها وإدامة مطالعتها وتلخيصها. وهي طريقة عامة السلف. ولَأن تقرأ كتابًا من كتب العلم عشر مرات بتفهّم وإعمال ذهن أنفع وأمتع وأبقى أثرًا وأسرع استحضارًا من أن تحفظ فيه منظومة لأن المنظومة واسطة إلى مسائل العلم، والعلم أسهل وأقرب وآنس من أن تبتغي إليه الوسيلة بحفظ منظومة.
وإنما ينبغي أن يُشغل الذهن بحفظ ما يُحفظ لذات لفظِه كالقرآن والشعر وألفاظ اللغة والتواريخ ونسبة المذاهب. أما ما يُراد معناه كمسائل العلم فالأنفع والأسهل تحصيله بما ذكرته من تكرار النظر والمطالعة والمذاكرة والتدريس ونحو ذلك. 
وقد يُحتاج إلى النظم في حالة واحدة، وذلك في العلم الذي تكثر اصطلاحاته وفي المسائل التي تكثر شروطها أو عدد أفرادها كالعروض وكحروف الجرّ ونحو ذلك. أما ما سوى ذلك فلا. أترى ملمًّا بالنحو يحتاج أن يحفظ بيتًا فيه أن الفاعل مرفوع؟ كلا لأنه قد حفظ هذا حفظًا لا يُحوج إلى نظم يضبطه به، فكذلك ينبغي أن تكون جميع مسائل العلم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق