من ما لُحِّن فيه العامة وله وجه
نُشر في المجلة الثقافية في 12/ 3/ 1431هـ.
خطَّأ جمعٌ من الكتَبةِ استعمالَ الفعلِ (دهَسَ) بمعنَى (دعَسَ) وتناذَروه، منهم مصطَفى جواد في «قل ولا تقل» والزعبلاويُّ في «معجم أخطاء الكتَّاب» وأسعد داغر في «تذكرة الكاتب» والعدنانيُّ في «معجم الأخطاء الشائعة» وأبو تراب الظاهري في «كبوات اليراع». وقالَ الشيخُ عليٌّ الطنطاويُّ في «قصص من التاريخ»: (وبعض الصحفيين عندنا يتفاصحون فيكتبون: دهَسْتُ. بالهاء بدلَ العين. وذلك خطأ) ا.هـ. ولم أر من المعاصرين من صحَّح هذا اللفظ. وحجّتهم في ذلكَ أنّهم لم يجدوه في شيء المعاجم. ولعمري لقد صدقوا، غيرَ أنِّي وقفت عليه في بيتٍ من الرَّجَزِ للعجَّاجِ، قالَ:
* سنابِكُ الخيلِ يصدِّعنَ الأَيَرْ *
* من الصَّفا العاسي ويدهَسْنَ الغَدَرْ *
* عزازَه ويهتمِرنَ ما انهمَرْ *
يصِفُ الخيلَ في انطلاقِها للغزوِ بأنَّها إذا مرَّت بموضعٍ أيَرَّ (أي: شديدٍ) من الصَّفا دقَّته حتى يتصدَّعَ، وإذا مرَّت بالغدَرِ (وهو الموضعُ غيرُ المستوي بالأرضِ) دهستْه حتى يستويَ بها. كنَى بذلك عن كثرةِ عدَدِها. قالَ الأصمعيُّ في شرحِه على هذا البيت: (وقولُه: ويدهَسْن الغدَرْ. يقولُ: إذا مررنَ بموضعٍ صُلبٍ مرتفعٍ تركنَه دَهَاسًا. والدَّهَاسُ: التراب الليِّن ما لا يبلغُ أن يكونَ رملاً) ا.هـ. وكلامُه نصٌّ مبينٌ ينفي مظنَّةَ التصحيفِ. وبنحوِه قالَ أبو عَمْرٍ الشيبانيُّ كما نقلَ عنه أبو منصورٍ الأزهريُّ في «التهذيب».
ووجدته أيضًا في بيتٍ آخر لابنه رؤبة، وذلك قوله:
* يدهَسْن منه عقِدًا مدهوسا *
* أعرافَه والأوعسَ الموعوسا *
(ولا غروَ أن يحذو الفتى حذوَ والدِهْ). وهذا التواطؤ بينَ العجَّاجِ وابنِه يدلُّنا بلا شَكٍّ على صِحَّة هذا اللفظ وأنَّه كانَ من لسانِ هؤلاء القومِ وإن كانَ العلماءُ لم يقيِّدوه في ما قيَّدوا في المعجَماتِ من ألفاظِ اللغةِ.
ووقعَ في «أمالي أبي عليٍّ»: (وروَى أبو عبيدة عن أبي زيدٍ: هضضتُه أهضُّه هَضًّا ودهَستُه والشيءُ دهيسٌ). وهذا الكلامُ ظاهِرُه إثباتُ (دهسَ) من طريقٍ أخرَى لولا أنَّ فيه تصحيفينِ، أولُهما: أنَّ روايةَ أبي عبيدةَ عن أبي زيدٍ لا تصِحُّ لأنَّه كانَ قرْنًا له ولِدةً من لِدَاتِه، وما روَى عنه قطُّ. والصوابُ (وروَى أبو عبيدٍ عن أبي زيدٍ). وهو القاسم بن سلامٍ. وهو كثيرُ الرِّوايةِ عنه في «الغريبِ المصنَّف» و«غريبِ الحديث» و«الأمثالِ». وثانيهما: أنَّ (دهسْتُه) مصحَّفةٌ عن (وهسْتُه) بالواوِ. والنصُّ ثابتٌ على الصَّوابِ في «الغريب المصنَّفِ». وإذن فلا يبقى شاهِدًا على هذا الفِعلِ غيرُ بيتِ العجَّاجِ.
فأمَّا وجهُه مِن الاشتقاقِ فإنَّهم قالوا: (دهِسَ الشيءُ يدهَسُ دُهسَةً فهو أدهسُ وجمعُه دُهْسٌ). وهو لونٌ من الألوانِ. ولمَّا كانَ هذا اللونُ أكثر ما يكونُ صفةً للمكانِ السَّهلِ الذي يثقلُ المشيُ فيه اشتَقُّوا له منه فرعًا من طريقِ (التخصيصِ بالزِّيادةِ) فقالوا: (رملٌ دَهْسٌ ودَهاسٌ) بمعنَى (سَهلٌ يثقلُ المشيُ فيه)، وكأنَّهم بنَوه على (فعُل يفعُل) وإن كانَ لم يُسمعْ لأنَّ (فعْلاً) و(فَعالاً) من أبنيةِ الصفاتِ المشبَّهةِ لـ(فعُل يفعُل) كـ(سَهْل) و(جَبان). فيكونُ قولُهم: (دهسَه) بمعنَى (ليَّنَه حتى جعلَه سَهلاً مستويًا بالأرضِ) كما قالوا: (وطِئه فوطُؤ). فإذا قلتَ: (دهسَتْه السيَّارةُ) كانَ هذا استعارةً مكنيَّةً، كأنَّك شبَّهتَ الإنسانَ بالأرضِ. وقد بقِيَ في هذه المسألةِ موضعٌ للنظرِ فيهِ مَرادٌ. وهو أنَّه لم يبلغنا من السَّماعِ إلا المضارعُ، فما ماضيه؟ أ(دهَسَ) هو أم (دهِسَ)؟ إذ جائز أن يكونَ من بابِ (فتَحَ) لأنَّه حلقيُّ العينِ وجائِز أن يكونَ من بابِ (فرِحَ). والصوابُ عندي أن يكونَ من البابِ الأوَّلِ بابِ (فتحَ) لكثرتِه في المتعدِّي. والحملُ على الكثيرِ أولَى.
وبِهذا يتبيَّنُ صِحَّة قولِ المعاصرين: (دهَستْه السيارةُ تدهَسُه دهْسًا).
نُشر في المجلة الثقافية في 12/ 3/ 1431هـ.
خطَّأ جمعٌ من الكتَبةِ استعمالَ الفعلِ (دهَسَ) بمعنَى (دعَسَ) وتناذَروه، منهم مصطَفى جواد في «قل ولا تقل» والزعبلاويُّ في «معجم أخطاء الكتَّاب» وأسعد داغر في «تذكرة الكاتب» والعدنانيُّ في «معجم الأخطاء الشائعة» وأبو تراب الظاهري في «كبوات اليراع». وقالَ الشيخُ عليٌّ الطنطاويُّ في «قصص من التاريخ»: (وبعض الصحفيين عندنا يتفاصحون فيكتبون: دهَسْتُ. بالهاء بدلَ العين. وذلك خطأ) ا.هـ. ولم أر من المعاصرين من صحَّح هذا اللفظ. وحجّتهم في ذلكَ أنّهم لم يجدوه في شيء المعاجم. ولعمري لقد صدقوا، غيرَ أنِّي وقفت عليه في بيتٍ من الرَّجَزِ للعجَّاجِ، قالَ:
* سنابِكُ الخيلِ يصدِّعنَ الأَيَرْ *
* من الصَّفا العاسي ويدهَسْنَ الغَدَرْ *
* عزازَه ويهتمِرنَ ما انهمَرْ *
يصِفُ الخيلَ في انطلاقِها للغزوِ بأنَّها إذا مرَّت بموضعٍ أيَرَّ (أي: شديدٍ) من الصَّفا دقَّته حتى يتصدَّعَ، وإذا مرَّت بالغدَرِ (وهو الموضعُ غيرُ المستوي بالأرضِ) دهستْه حتى يستويَ بها. كنَى بذلك عن كثرةِ عدَدِها. قالَ الأصمعيُّ في شرحِه على هذا البيت: (وقولُه: ويدهَسْن الغدَرْ. يقولُ: إذا مررنَ بموضعٍ صُلبٍ مرتفعٍ تركنَه دَهَاسًا. والدَّهَاسُ: التراب الليِّن ما لا يبلغُ أن يكونَ رملاً) ا.هـ. وكلامُه نصٌّ مبينٌ ينفي مظنَّةَ التصحيفِ. وبنحوِه قالَ أبو عَمْرٍ الشيبانيُّ كما نقلَ عنه أبو منصورٍ الأزهريُّ في «التهذيب».
ووجدته أيضًا في بيتٍ آخر لابنه رؤبة، وذلك قوله:
* يدهَسْن منه عقِدًا مدهوسا *
* أعرافَه والأوعسَ الموعوسا *
(ولا غروَ أن يحذو الفتى حذوَ والدِهْ). وهذا التواطؤ بينَ العجَّاجِ وابنِه يدلُّنا بلا شَكٍّ على صِحَّة هذا اللفظ وأنَّه كانَ من لسانِ هؤلاء القومِ وإن كانَ العلماءُ لم يقيِّدوه في ما قيَّدوا في المعجَماتِ من ألفاظِ اللغةِ.
ووقعَ في «أمالي أبي عليٍّ»: (وروَى أبو عبيدة عن أبي زيدٍ: هضضتُه أهضُّه هَضًّا ودهَستُه والشيءُ دهيسٌ). وهذا الكلامُ ظاهِرُه إثباتُ (دهسَ) من طريقٍ أخرَى لولا أنَّ فيه تصحيفينِ، أولُهما: أنَّ روايةَ أبي عبيدةَ عن أبي زيدٍ لا تصِحُّ لأنَّه كانَ قرْنًا له ولِدةً من لِدَاتِه، وما روَى عنه قطُّ. والصوابُ (وروَى أبو عبيدٍ عن أبي زيدٍ). وهو القاسم بن سلامٍ. وهو كثيرُ الرِّوايةِ عنه في «الغريبِ المصنَّف» و«غريبِ الحديث» و«الأمثالِ». وثانيهما: أنَّ (دهسْتُه) مصحَّفةٌ عن (وهسْتُه) بالواوِ. والنصُّ ثابتٌ على الصَّوابِ في «الغريب المصنَّفِ». وإذن فلا يبقى شاهِدًا على هذا الفِعلِ غيرُ بيتِ العجَّاجِ.
فأمَّا وجهُه مِن الاشتقاقِ فإنَّهم قالوا: (دهِسَ الشيءُ يدهَسُ دُهسَةً فهو أدهسُ وجمعُه دُهْسٌ). وهو لونٌ من الألوانِ. ولمَّا كانَ هذا اللونُ أكثر ما يكونُ صفةً للمكانِ السَّهلِ الذي يثقلُ المشيُ فيه اشتَقُّوا له منه فرعًا من طريقِ (التخصيصِ بالزِّيادةِ) فقالوا: (رملٌ دَهْسٌ ودَهاسٌ) بمعنَى (سَهلٌ يثقلُ المشيُ فيه)، وكأنَّهم بنَوه على (فعُل يفعُل) وإن كانَ لم يُسمعْ لأنَّ (فعْلاً) و(فَعالاً) من أبنيةِ الصفاتِ المشبَّهةِ لـ(فعُل يفعُل) كـ(سَهْل) و(جَبان). فيكونُ قولُهم: (دهسَه) بمعنَى (ليَّنَه حتى جعلَه سَهلاً مستويًا بالأرضِ) كما قالوا: (وطِئه فوطُؤ). فإذا قلتَ: (دهسَتْه السيَّارةُ) كانَ هذا استعارةً مكنيَّةً، كأنَّك شبَّهتَ الإنسانَ بالأرضِ. وقد بقِيَ في هذه المسألةِ موضعٌ للنظرِ فيهِ مَرادٌ. وهو أنَّه لم يبلغنا من السَّماعِ إلا المضارعُ، فما ماضيه؟ أ(دهَسَ) هو أم (دهِسَ)؟ إذ جائز أن يكونَ من بابِ (فتَحَ) لأنَّه حلقيُّ العينِ وجائِز أن يكونَ من بابِ (فرِحَ). والصوابُ عندي أن يكونَ من البابِ الأوَّلِ بابِ (فتحَ) لكثرتِه في المتعدِّي. والحملُ على الكثيرِ أولَى.
وبِهذا يتبيَّنُ صِحَّة قولِ المعاصرين: (دهَستْه السيارةُ تدهَسُه دهْسًا).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق