في رواية الشعر والأدب
أصله تعليق على رأي الأستاذ صالح العمري أن يُقرأ بيت أبي تمام هكذا:
فليُنظَرنّ المرءُ مِن غلمانِه ** فهم خلائفه على أخلاقه
وتخطئتِه أن يُقرأ: (فليَنظَرنّ المرءُ مَن غلمانُه). وقد نُشر في ملتقى أهل اللغة في 8، 9، 10/ 4/ 1432هـ.
أصله تعليق على رأي الأستاذ صالح العمري أن يُقرأ بيت أبي تمام هكذا:
فليُنظَرنّ المرءُ مِن غلمانِه ** فهم خلائفه على أخلاقه
وتخطئتِه أن يُقرأ: (فليَنظَرنّ المرءُ مَن غلمانُه). وقد نُشر في ملتقى أهل اللغة في 8، 9، 10/ 4/ 1432هـ.
يَظهر لي أنَّ الصوابَ في رِواية هذا البيت هو:
فَلْيَنْظُرَنَّ المرءُ مَن غِلْمانُه ** فهمُ خلائفُه علَى أخلاقِهِ
يقولُ أبو تمَّامٍ: ليفتِّشِ المرءُ في حالِ غلمانِه، وليتفقَّدْ أخلاقَهم، فإنَّ صلاحَ أخلاقِهم دَليلٌ علَى صلاحِ خُلُقِه وفسادَ أخلاقِهم دَليلٌ علَى فسادِ خلُقِه. ونظيرُ هذا ما نقلَه أخونا صالحٌ عن الجاحظِ. ومن الأبيات المعروفة في ذلك قولُ الشاعرِ:
سهلُ الفِناء إذا حللتَ ببابِهِ ** طَلْقُ اليدَينِ مؤدَّب الخُدَّامِ
و(مَن) في البيت استفهاميَّةٌ، وهي وما بعدَها في محلِّ نصبٍ مفعولٌ بهِ لـ(ينظُر). ونظيرُه قولُ الله تعالَى: ((فلينظرِ الإنسانُ من مَّ خُلِقَ))، وقولُ النبي عليه السلام: (المرءُ علَى دينِ خليلِه، فلينظر أحدُكم مَن يُخالل). فقايس بيتَ أبي تمامٍ بهذين الشاهدينِ ينجلِ لكَ معناه.
وبصددٍ من هذا المعنَى مدحُهم الرجلَ إذا كانَ كلبُه ذا أنسٍ بالضَّيفِ واستِدلالُهم بهذا علَى كرَمِ ربِّه وحسنِ قِراهُ، قالَ نُصيبٌ:
وكلبُك آنَسُ بالمعتفينَ ** من الأمِّ بابنتِها الزائرَهْ
وهو بيتٌ مستطرَف التشبيه وإن كان معناه معروفًا مطروقًا.
وأمَّا ضبطُ بيتِ أبي تمام هكذا:
فَلْيُنْظَرَنَّ المرءُ مِن غِلْمانِهِ ** فهمُ خلائفُه علَى أخلاقِهِ
فبعيدٌ في رأيي. وذلكَ أنَّ (يُنظَر) هنا متعدِّيةٌ بنفسِها. ولذلكَ أُسنِد مفعولُها إلى الفعلِ لما بُنِي للمجهولِ فارتفعَ. والمعروفُ في (نظَر) تعدِّيه بحرف جرٍّ. وبذلكَ نزلَ القرآنُ ونطقَت الفصحاءُ، قالَ تعالَى: ((فليَنظُر الإنسانُ إلى طعامِه)) ثمَّ قالَ امرؤ القيس:
نظرتُ إليها والنجومُ كأنَّها ** مصابيحُ رهبانٍ تُشَبُّ لقُفَّالِ
وقلّما عدّوا (نظر) بنفسه وإن كان ذلك قد ورد في أبيات قليلة من الشعر.
وعلَى أنَّ في البيت إذا قرأناه بهذه الرِّوايةِ شيئًا من الركاكةِ متى تأمَّلتَ في معنَى (يُنظَر) وموضع (مِن) ودلالتها ووازنتَها بقولِك مثلاً: (يُنظَر الإنسانُ مِن منطقِه) تريدُ أنَّ الإنسان يعرَف معدِنه بمنطقِه أي: كلامِه. وهذا كما ترَى غايةٌ في العِيِّ والرَّداءة.
فقد انتهينا إذن إلى بيانِ فسادِ هذا الضبطِ:
فَلْيُنْظَرَنَّ المرءُ مِن غِلْمانِهِ ** فهمُ خلائفُه علَى أخلاقِهِ
ووقفَ الأستاذ الكريم صالح عند هذا الضبطِ:
فَلْيَنْظُرَنَّ المرءُ مَن غِلْمانُه ** فهمُ خلائفُه علَى أخلاقِهِ
منكِرًا له وطاعنًا عليه بأنَّه ضعيفُ الارتباطِ بما قبلَه غيرُ متعلِّقٍ به في المعنَى. وإذْ كانَ صوابُ الرِّوايةِ دائرًا على هذينِ الاحتمالينِ فلا بُدَّ لأخينا الكريمِ أن يختارَ أحدَهما أو يأتيَنا باحتمالٍ آخَرَ غيرِهما بريءٍ من المطاعنِ التي ذكرَها. فأمّا أن نرضَى بالتفويضِ والتوقُّفِ وأن يكونَ حظُّنا من العلمِ الإنكارَ وحسبُ فأمرٌ لا يَشفي سائلاً ولا يكشِف حقًّا ولا باطلاً.
علَى أني أعجَبُ من إنكارِ أخينا صالحٍ لارتباطِ هذا البيتِ بما قبلَه في المعنَى وهو البصيرُ بالشِّعر المطَّلِع على تصرُّفاتِ الشعراءِ ومذاهبِهم. والحقُّ أني لم أغفُل عن النظرِ إلى البيتِ السابقِ لهذا البيت، ولكنِّي تركتُ الإشارةَ إليهِ والكلامَ عليه لاعتقادِي أنَّه بيِّنُ التعلُّق بما بعده والاستدعاءِ له. وذرنِي أشرحْ لك ذلك.
لا بُدَّ أن نعرِف أولُ أنَّ هذين البيتين من أبياتٍ يعاتِب بها أبو تمَّامٍ بعضَ أصحابِه وكأنَّه آنَسَ من لقائه له جفوةً وفُتورًا ووجدَ مثلَ ذلكَ من استقبالِ خدمِه له، فقولُه:
حشَم الصديقِ عيونُهم بحَّاثةٌ ** لصديقِه عن صدقِه ونِفاقِه
تنبيه علَى أنَّ للعيونِ لسانًا ناطقًا ولغةً مُبِينةً. وهذا كما قالَ الشاعرُ:
والعينُ تعرِف في عينَي محدِّثِها ** إنْ كان من حزبِها أو من أعاديها
وقالَ الآخَر:
أشارت بطرفِ العين خيفةَ أهلِها ** إشارةَ مذعورٍ ولم تتكلَّمِ
فأيقنت أن الطرفَ قد قال: مرحبًا ** وأهلاً وسَهلاً بالحبيب المتيّمِ
وقد أكثرتِ الشّعراء في ذلك.
والمتمرِّس بالشِّعرِ يعلمُ أنَّه لم يرِد قصرَ ذلكَ على العيونِ، وإنما ذكرَ العيونَ مِثالاً وأرادَ جملةَ الأخلاقِ. وذلكَ أنَّ دلالةَ العيونِ دلالةٌ خفيَّةٌ غامِضةٌ. وإذا عرَف المرءُ ما في سريرةِ صديقِه بعيونِ خدمِه فأجدَرُ أن لا يخطئَ معرِفةَ سريرته بأوضحَ من ذلكَ من الأخلاق الظاهرةِ لنفسِه. وقد رأيتَ كيفَ أحسنَ أبو تمام الإبانةَ عن هذا المعنَى بأن جعلَ معرفةَ ما في نفسِ الصديقِ قِبَلَ صديقِه ومبلغَ إخلاصِه الودَّ له معقودًا بأمرينِ بعيدَينِ، أوَّلهما خدمُه. ثمَّ لم يكتفِ بذلكَ حتَّى ناطَ ذلكَ بعيونِهم. وهو الأمر الثاني. وقد علمتَ أنَّ دلالةَ العيونِ وإن كانَت مفهومةً أحيانًا، فإنَّها أدقُّ وأغمض من دلالةِ غيرِها من الكلامِ أو الفعلِ.
وهذا البيتُ يتضمَّنُ معانيَ عِدَّةً، منها أنَّ للعيونِ لغةً وإبانةً، ومنها أنَّ الصديقَ وإنْ جهَدَ أن يستُر ما في نفسِه تُجاهَ صديقِه فإنَّه لا يلبَثُ أن ينمَّ عليه ما لم يجرِ منه علَى بالٍ، ومنها أنَّ الخدمَ صورةٌ صادقةٌ لسيِّدِهم يَظهرُ عليهم ما يُكِنُّ في نفسِه. وكأنَّ أبا تمامٍ أعجِبَ بهذا المعنَى الأخيرِ واستحسنَه، فانسلَّ منه إلى ما بعدَه وآثَرَ أن يُعقِبَه بحكمةٍ عامَّةٍ منسرِبةٍ من هذا المعنَى ينبِذُها إلى مخاطَبِه وتكونُ خِتامًا لأبياته هذه فقالَ:
فَلْيَنْظُرَنَّ المرءُ مَن غِلْمانُه ** فهمُ خلائفُه علَى أخلاقِهِ
يقولُ: إذا كانَ الغِلمانُ صورةً تخبِرُك عن غيبِ سيِّدِهم إذا كانَ صديقًا لكَ فاعلَمْ أنَّ الغِلمانَ أيضًا تبَعٌ لسيِّدِهم في سائرِ أخلاقِه، فلينُهم دَليلٌ علَى لينِه وشِدَّتُهم دليلٌ علَى شِدَّتِه وكرَمُهم دليلٌ علَى كرمِه وبخلُهم دَليلٌ علَى بخلِه. ولهذا الأمرِ مدحَ الشاعرُ ممدوحَه بأنه: (مؤدَّبُ الخُدَّام).
وإذن فليتفقَّدِ المرءُ غِلمانَه، وليحرصْ علَى أن تكونَ أخلاقُهم حميدةً، فإنَّهم وَجهُه، وبِهِم يُستدَلُّ على خُلُقِه ويُعرَف معدِنه! وهذا معنًى معروفٌ، فإنَّك إذا رأيتَ أبناءَ الرجلِ وأهلَه يحتفُونَ بكَ ويكرِمونَك علِمتَ أنَّهم علِموا محبةَ أبيهم لكَ فعاملوكَ بذلك. والضدُّ بالضدِّ.
فقد رأيتَ علاقةَ هذا البيتِ بما قبلَه عَلاقةً واضحةً لا لبسَ فيها وأنَّ أبا تمَّامٍ لم يُفسدِ المعنَى ولم يخطئ فيه وأنَّه لا ينبغي أن يقرأ بيتُه بحروفِه إلا هكذا ما لم يكن محرَّفًا. وهو ما لم نتبيَّنه حتى الآنَ.
ولست أرَى حاجةً لطولِ التشكُّك في هذا البيت وقد ظهرَ أنه إن لا يكن ارتباطه بما قبلَه واضحًا كلَّ الوضوحِ فإنه ليس بمستنكَرٍ ولا مدفوعٍ. وفي كتابِ الله تعالَى من الآياتِ ما لا يَظهر ارتباطُها بما قبلَها إلا لبعضِ الراسخينَ في العِلْم. وكثيرٌ من الشِّعر علَى هذا النحو. معَ أني أزعُم أنَّ الارتباطَ بين البيتينِ واضِحٌ كلَّ الوضوحِ.
ولعلَّ ما ذكرتُه يكشِف لكَ عن المعنَى الجامع لهذا البيتِ بالأبياتِ التي أوردها أبو عثمانَ وكيفَ ترجِع إلى بابٍ واحدٍ ومقدارِ ما بينَها من التآخي والائتلافِ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق