الاثنين، 31 يوليو 2017

مسائل بلاغية متفرقة

نُشر مفرّقًا في ملتقى أهل اللغة في أوقات مختلفة.
- س: هل يصح قول بعضهم لمن يريدون ذمّه: (فلان ليس رجلًا) مع أنه رجل في حقيقة الأمر؟
ج: نعم، صحيح لأنَّ الناسَ إنَّما ينفونَ عنهُ معانيَ الرجولةِ وكمالَها لا حقيقتَها. وهذا مذهبٌ معروفٌ في كلامِ العربِ، قالَ سيبويهِ: (ومثلُ ذلكَ: مررتُ برجلٍ رجلٍ أبوه، إذا أردتَّ معنَى أنه كاملٌ) [الكتاب 2 / 29 تح هارون].
ولذلكَ نفى النبيُّ - عليه السلام - عن طائفةٍ من الناسِ الإيمانَ وأرادَ انتفاءَ كمالِهِ. وهذا بابٌ من البلاغةِ لطيفٌ دقيقُ المسلَكِ خفيُّ المأخذِ له شواهد كثيرة، منها قولُك إذا صادفتَ شعرًا ضعيفًا ساقِطًا: (هذا ليسَ بشعرٍ) معَ أنَّه مستوفٍ شروطَ الشعرِ الواجبةَ من الوزنِ والقافيةِ. ومنه أيضًا قولُك للكلامِ تُنكِرُه وتستجفيهِ: (هذا ليسَ كلامًا) معَ أنّك لم ترِد إخراجَه من جُملةِ الكلامِ، وإنَّما أردتَّ التهوينَ منه والحطَّ من شأنِهِ. ومنه قولُ شوقي:
ليسَ اليتيمُ من انتهى أبواهُ مِن ** همّ الحياةِ وخلّفاه ذليلا
وقبلَه قولُ عديِّ بنِ الرعلاءِ الغسانيِّ:
ليسَ من ماتَ فاستراحَ بميتٍ ** إنَّما الميْتُ ميِّتُ الأحياءِ
وقد يجوزُ أن يكونَ هذا من قَبيلِ حذفِ الصفةِ.
- س: ما الفائدة البلاغية من وصف الله تعالى النارَ بأنها ذات لهب في قوله: ((سيصلى نارًا ذات لهب)) مع أن النار لا تكون إلا كذلك؟
ج: : لما كانت البلاغةُ قائمة على مراعاةِ حالِ الخِطابِ ومراعاة حالِ المخاطَبِ وكانَ الخِطابُ في ما ها هنا خِطابَ تهديدٍ ووعيدٍ، وكانَ المخاطَبُ مُصِرًّا على كفرِه مقيمًا على محادّتِه لله تعالَى ورسولِه ناسبَ أن يُذكَر اللازمُ وإن كانَ ملزومُه مغنيًا عنه لِما يقعُ للمخاطَب أحيانًا من الغفلةِ عن تصوُّر الشيء بجميعِ لوازمهِ والذهابِ عن تعقُّلِ معناه حقَّ التعقُّلِ، فإذا ذُكِرت كانت كالتنبيه له وكانَت أبعدَ أثرًا في نفسه.
ولهذه الآيةِ نظائرُ، منها قولُه تعالَى: ((نارُ اللهِ الموقَدةُ))، والنار لا تكونُ إلا موقَدةً ، وقوله: ((وغرابيبُ سودٌ))، والغربيبُ هو الأسودُ الشديدُ السَّوادِ، ثم قولُ الأعشَى:
ما روضةٌ من رياضِ الحَزْنِ معشِبةٌ ** خضراءُ جادَ عليها مسبِلٌ هطِلُ
فوصفَ الروضة بالخضرةِ معَ أنَّ الروضةَ لا تكونَ إلا كذلكَ.
وهذا ضربٌ من الإطنابِ من طريقِ التصويرِ يدورُ معَ حالِ الخِطابِ والمخاطَبِ. ولا أعرِفُ البلاغيِّين ذكرُوه. وإذا أردتَّ أن تعرِفَ ما فيه من البلاغة فاحذف اللوازمَ من الشواهدِ السابقةِ ثم اذكرها ووازن بينَ أثرِ الحالينِ في نفسِك، فإذا أحسستَ أنَّ في ذكرِها فضلَ فائدةٍ فاعلمْ أنّ ذلك هو الداعية إلى ذكرها في الكلام.
- س: أيّ أبلغ (سأعود بعد قليل) أم (سأعود بعد حين)؟
ج: أما (سأعود بعد قليلٍ) فالزمنُ محدَّدٌ فيها.
وأما (سأعود بعد حين) فالزمن غير محدَّد فيها.
فالأولى تُستعمَل في مقامات الإخبار المجرَّدةِ التي لا يُراد بها غرضٌ من الأغراض المعروفة كالتهويل والتهديد ونحوها لأنه لم يجرِ فيها خروجٌ عن الأصلِ. وهي إذا استعمِلت فإنما تدلّ على القليلِ فحسبُ.
وأما الثانية فإنَّك حذفتَ الصِّفةَ منها. ولها استعمالان:
الأول: استعمال حقيقيٌّ. وذلكَ في ما لا تعرفُ مقدار الزمن فيه. ومنه قول أبي الطيِّب:
فإن الجرحَ ينفِر بعد حين ** إذا كان البناء على فسادِ
الثاني: استعمال بلاغيّ. وذلكَ إذا حذفتَ الصِّفةَ وأنت تعرفُها طلبًا للإبهامِ لما له من عمَل في جعلِ الذهنِ يذهبُ في استنباطه كلَّ مذهبٍ. ولذلك كان صالحًا استعمالُه في السياقات القائمة على الترقُّبِ أو التي تدعو إليه كسياق التهديد. ومنه قوله تعالى: ((ولتعلمُنَّ نبأه بعد حينٍ)).
وسياقِ التشويق كقولك للرجلِ يطلب خبرًا: (سأخبرك به بعد حين) تريد أن تشوِّقَه.
ولو ذكرتَ الصِّفة في هذه السياقاتِ لخلت من حسن البلاغة ولعادت كلامًا لا رُوحَ فيه.
فقد ظهرَ إذن أن فرقَ ما بين الجملتين أن الأولى مخصوصةٌ بالقليلِ، والثانية قد يُراد بها القليل وقد يُراد بها الكثير. وهي أيضًا في أكثر أحوالِها تُستعمل لأغراضٍ بلاغيّةٍ.
والله أعلمُ بمراده .
- س: ما الأجود في قولك:
أيامَ أهتزُّ ريَّانَ المُنى طربًا ** كالعود يهتزّ في أغصانه نضِرا
أن تُضبط الراء بالفتح (طرَبًا) أم بالكسر (طرِبًا)؟
ج: أختار وجه الكسر من أجل طلب مناسبتِها للكلمة التي في آخِر العجُز (نضَِرا) إذْ هي مكسورةٌ، والشعراءُ من مَّا تستحِبُّ ذلكَ. وقد ذكر ابنُ جني في "الفسرِ 2 / 6" شرحِه على ديوان أبي الطيِّب أنَّ من ما استدلَّ به على حصافة لفظ أبي الطيِّب وصحَّة صنعته ودقَّة فكره أنه سأله يومًا عن قوله:
وقد عادتِ الأجفانُ قرْحًا من البُكى ** وعادَ بهارًا في الخدود الشقائقُ
فقال ابن جنِّي: أقرحَى ممالٌ أم قرحًا منوَّنٌ جمع قرحةٍ؟
فقال أبو الطيب: قرحًا منوَّنٌ. ثم قال: ألا ترى أنَّ بعدَه:
وعادَ بهارًا في الخدود الشقائقُ 
يقول كما أنَّ (بهارًا) جمعُ (بهارة)، وإنما بينهما الهاءُ، فكذلك (قرحًا) جمع (قرحة)، وإنما بينهما الهاءُ، يوفِّق بذلك بين أجزاء الكلام.
وقرأتُ أيضًا في "تثقيف اللِّسان 280" لابنِ مكِّيّ الصقِلِّيّ: (وقد يترك الأحسن لما هو أحسن منه كما قال عبدُ المحسن الصوريُّ حينَ قُرِئ عليه من شعرِه:
يا حارِ إن الركبَ قد حارُوا ** فاذهبْ تحسَّسْ لِمَنِ النارُ
قال: إني لأعلمُ أن كسرَ الراء أحسنُ [يريدُ كسرَ راء (حارِ) على لغة من ينتظِر]، ولكن لا يُقرأ عليَّ شِعري إلا باختياري، فإني لا أختارُ في هذا الموضعِ إلا (يا حارُ) بضمِّ الراءِ.
وإنما اختارَ عبدُ المحسنِ ذلك ليجانِس أولُ القسيمِ آخرَه).
- الذي يظهر لي في بلاغة (مثل) في قوله تعالى: ((ليس كمثله شيء)) هو أنك إذا قلتَ للرجلِ يعمل الخطأ: (مثلك لا يفعل هذا) ففي ذلك تعليل للحكم وتبيان لوجه المنع وتعليق له بصفاته لا بذاته. ولو قلتَ: (أنت لا تفعل هذا) لظنَّ أن امتناع ذلك بالنظر إلى ذاته. وليس في هذا كما ترى حجَّة على المخاطب ولا إقناع له. وربَّما ظنَّه تحيُّزًا وتحكمًا. ومثل هذا قول جرير يهجو الفرزدقَ:
نفاك الأغرُّ ابن عبد العزيز ** ومثلك يُنفَى مِن المسجدِ
يريد أن مَن اجتمع فيه مثل صِفاتك كان حقًّا أن ينفَى من المسجدِ.
وهذا أبلغُ من التجريدِ من وجوه:
الأول: ما فيه من إيجازِ القِصَر حيث حكمتَ على المثيل بدلالة اللفظ وحكمت على المراد الإخبارُ عنه بالكناية لأنه إذا ثبت الحكمُ للشيء ثبت أيضًا لمثيله. فلهذا كان معنَى قول جرير: (ومثلك ينفى ...) هو (هذا الجنس حقّه أن ينفى...).
الثاني: تعليل الحكم وظهوره بمظهر الإنصافِ إذ تكونُ بيَّنت أنَّ الحكمَ حقّ لكلّ مَن اجتمعت فيه هذه الصفات.
الثالث: ما فيه من الكناية التي تثبِت الحكم ثم يفهمُه المخاطَب من غير تصريحٍ به، ألا ترى أن قولك: (مثلك لا يفعل هذا) أدعى للقَبول وألطفُ موقعًا في النفس من قولك: (لا ينبغي لك أن تفعل هذا)،وذلك لخلوِّه من التصريح.
وليس منها المبالغة التي ذكرها بعضهم لأنه فهِم أن المثلية تقتضي فرعية المحكوم عليه به. وليس الأمر كذلك، فالمثلية تقتضي التساوي لأن معنى (مِثل) هو (مماثل)، و(المماثلة) على بنية (المفاعلة) التي يكون الفاعل والمفعول فيها سواءًا في الفاعلية والمفعولية كـ(المضاربة) ونحوها. أما الذي يقتضي الفرعية فهو التشبيه، وذلك إذا قلتَ: (هذا يشبه هذا).
فإذا أجرينا هذا على قوله تعالى: ((ليس كمثله شيءٌ)) كان المعنى أن الخالقَ المتفرِّد بالكمال والبقاء لا يمكن أن يكون مثلَه شيءٌ من خلقِه، كأنه قال: (كلُّ مَن كان خالقًا امتنع أن يكون له مثيل. والله هو الخالق وحدَه، فلا يمكن أن يكون له مثيل). ولو قال: (ليس مثلَه شيء) لم ينبِّه على العلة التي استحقَّ بها امتناع المثلية وصار نفيًا محضًا مجرَّدًا عن الدليل بعيدًا عن الإقناعِ. وهذا كقوله في سورة النحل: ((أفمن يخلق كمن لا يخلق))  ولم يقل: (آلله كمثل معبوداتكم الأخرى)، فنبَّه على العلة كما ترى بألطف مسلك، وذلك أن هذه السورة مكيَّة، وهذا الخِطابُ أدنى أن يوافق حالَ كفَّار قريش لما اقترن به من الحجة المنطقيَّة.
فإن قلتَ: أليس مقتضى هذا إثبات المثيل لله؟
قلت: كلا، فهذه كنايةٌ، والكناية لا يجِب ثبوت ملزومِها.
- في كلام العرب ألفاظ ظاهرها الشَّتم، ولكنهم يستعملونها في معرِض التعجُّب والاستحسان، وذلك كقولهم: (قاتله الله) و(لا أبا له) و(ويل أمّه). فكيف جاز أن تدُلّ على هذا المعنى وتوضع في هذا الموضع؟ وما تفسيرها؟
الذي يظهر لي أنه لما كانت شدّة استحسان الشيء قد تتناهى إلى أن تنال من المستحسِن حتى تكاد توفي به على العطَب وحتى تكرُبه وتغمَّه لما ينوبه من التحيّر في أمر هذا المستحسَن، وذلك كما يقول المحِبّ لمحبوبه أو لشيء يُعجبه: (قتلتَني وعذَّبتَني)، فلمّا كان كذلك أنزلوه منزلة العدوِّ لما يصيبهم من أذى العُجْب به والعجَب منه فدعوا عليه بما يدعون به على العدو. وهذا إسرافٌ منهم في حُسن الإبانة وبراعة الدلالة على المعنَى الكامن في نفوسهم. وهو من باب الاستعارة المكنيّة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق