نُشر في ملتقى أهل اللغة في 1/ 5/ 1430هـ.
قالَ تعالى: ((فانطلقا حتى إذا ركِبا في السفينة خرقَها قال أخرقتَها لتغرقَ أهلَها)) [آية 71]، فعرَّفَ (السفينة).
وقالَ: ((حتى إذا لقيَا غلامًا فقتلَه)) [آية 74]، وقالَ: ((حتى إذا أتيَا أهل قريةٍ استطعما أهلَها)) [آية 77]، فنكَّرَ (الغلام) و(القرية).
فكيف فرَّقَ بين هذه الثلاثةِ؟ وكيف عرَّف (السفينة) ولم يتقدَّم لها ذكرٌ؟
ينبغي أن نعلمَ أولُ أنَّ التعريفَ والتنكيرَ مبحثٌ نحويٌّ متصِلٌ بعلم المعاني من قِبَل دورانِ الكلمةِ بينَ هاتين الحقيقتينِ دورانًا ربَّما أشكلَ الفصلُ فيه على المتكلِّم غيرِ البصيرِ بمواقعِ الكلام ووجوهِ الخِطابِ ودقائقِ الأحوالِ، ينبيك بهذا قولُ امرئ القيس بن حُجْرٍ:
مِسحٍّ إذا ما السابحات على الونَى ** أثرن الغبار بالكَديد المركَّلِ
فقد روى جمهور الرُّواة (الغبار)، وروى الأصمعيُّ (غُبارًا).
وقولُه:
فعنَّ لنا سِربٌ كأنَّ نِعاجَه ** عذارى دوار في مُلاءٍ مذيَّلِ
فقد روى جمهور الرواة (ملاءٍ)، وروى الأصمعيُّ (الملاءِ).
ولا شكَّ أيضًا أنك ترى مقدارَ الاختلافِ بينَ نُقَّاد القصائدِ، فمنهم من يدَّعي أن التنكير في موضعٍ مَّا للتحقيرِ، ومنهم من يقولُ: هو للتعظيمِ. ومنهم من يقول: هو لا يفيدُ هذا ولا ذاك. ثم لا تجدُهم يُبدونَ لك عن معيارٍ منصوبٍ تستطيعُ أن تحتكم إليه وتقف عنده.
من أجل ذلك كانَ معرفةُ الفصلِ فيه من آياتِ البلاغةِ التي لا يُهدَى إليها إلا مَن راضَ نفسَه بمحاسنِ الكلامِ وعوَّدَها طُرُقَ الإصابةِ وأوتيَ من الذوقِ ولُطفِ الحِسِّ ما يقوم في نفسه مقام الأصولِ الموضوعةِ والقواعدِ المستحدَثةِ.
وسأذكرُ إن شاء الله حقيقةَ هذا البابِ وأبيِّن علاقتَه بالبلاغةِ ثم ألتفِت إلى الآية الكريمة فبيتي امرئ القيس المتقدِّمين.
الأصلُ في الكَلِم هو التَّنكيرُ، وذلك أنَّ الألفاظَ الموضوعةَ لتكونَ دلائلَ على الأشياءِ إنما وُضِعت لتكونَ شامِلةً لكلِّ فردٍ من أفرادِ الجنسِ ما توفَّرت فيهِ حقائقُ معيَّنةٌ لا تقومُ ماهيَّتُه إلا بها، فإذا قلتَ: (كتاب) دخلَ في هذا كلُّ ما كانَ مؤتلِفًا من أوراقٍ على نحوٍ معلومٍ ولم يستبن فردٌ منها عن فردٍ، فاحتاجت العربُ إلى الفصلِ بينها وتمييز بعضها من بعضٍ فلجأت إلى طرائقَ مختلِفةٍ كلُّها يجمعُها اسمُ التعريفِ، منها التعريف بـ(أل)، فألحقتها أوائلَ الكلِمِ لتَدلَّ على أنَّ هذا الشيءَ معروفٌ عندك أيُّها المخاطبُ وأن لك به سابقَ علمٍ وأنه ليس كسائرِ الأفرادِ. والسبيلُ إلى معرفةِ هذا الفرْد المعرَّفِ أن يكونَ أوَّلاً مشارًا إليهِ كما لو قالَ لك قائِلٌ: (اقرأ الكتاب) وأعطاكه بيدِه، فهو معرِفةٌ عندَك بالحالِ. فإن عِدمتَ هذا ففتِّش عن الكلمةِ المعرَّفةِ في ما مضى من الكلامِ، فإذا وجدتَّها سبقت فهي المراد تعيينُها. ومن ذلك قوله: ((كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً * فعصى فرعون الرسولَ))، فإنَّ قولَه: (الرسول) مقتضاه أنَّه معروفٌ لديكَ، فلمَّا عدِمتَ دَِلالة الحالِ انتقلتَ إلى الكلامِ. فإذا عدِمتَ دَِلالة الكلامِ ولم تجِد لها ذكرًا سابقًا انتقلتَ إلى دَِلالة العهدِ، فقد يكونُ بينَك وبينَ المتكلِّم عهدٌ فيها كما لو قال لك: (قد وجدتُّ الرجلَ) يريد رجلاً قد حدَّثك عنه من قبلُ. فإذا وجدتَّ المخاطبَ عرَّف لك الكلمةَ ولا حالَ تشيرُ إليها ولا كلامَ تقدَّمها ولا عهدَ بينك وبينه فيها فاعلمْ أنَّه أرادَ تعريفَ فردٍ غيرِ معيَّنٍ، وهو ما يسمّونه تعريفَ الجنسِ. ولا يكون إلا مجازًا. ويأتي الحديث عنه مفصَّلاً.
فـ(أل) إذن لا تفارقُ التعريفَ في أصل وضعها. ولا يصِحُّ تقسيمُها إلى جنسيَّةٍ وعهديَّةٍ ثم تقسيمُ الجنسيَّة إلى دالَّة على الحقيقة ودالَّة على الاستغراقِ ثم تقسيمُ العهديَّة إلى ذكريَّة وعلميَّة وحضوريَّةٍ، بل كلُّها للتعريفِ، وحقيقتُها واحدةٌ لا تختلِف، وإنما الاختلافُ بينَها في المراجِع التي يرجِع إليها التعريفُ وحسبُ. وهي في هذا تُشبِه الضمير، فكما أنَّ رجوعَه قد يكون إلى اسم يتقدَّمه وقد يكون إلى المفهوم من فعلٍ سابقٍ له وقد يكون إلى ما لا ذكرَ له في الكلامِ، وهو مع ذلكَ لم يُقسَّم من هذا الوجه فكذلك المعرَّف بـ(أل).
فأمَّا ما استحَقَّ التعريفَ من الكَلِم فلا يجوز تنكيرُه بحالٍ ولو مجازًا، وإنما تنكِّرُه العربُ باسم الإشارةِ مع التعريفِ بأل، فأمَّا التعريفُ بأل فللتمييز من سائر الأفراد. وأما الإشارة فلبيانِ أنَّه نكِرةٌ حتى معَ تعريفِه، فهو يحتاج إلى تعريفٍ آخَرَ.
وأمَّا ما استحقَّ التنكيرَ من مَّا لا يُراد بهِ فردٌ معيَّنٌ فلا يُعرَّف إلا لغرضٍ بلاغيٍّ كما سيأتي.
واعلمْ أنه لا يمكن أن يأتيَ التنكيرُ لغرضٍ بلاغيٍّ البتةَ لأن التنكيرَ هو الأصلُ وهو الذي اقتضاهُ المعنَى. ومن شرط صحَّة العلَّة أن يتعلَّق الحُكْم بها وجودًا وعدمًا. وهذه لو أبطلنا العلَّة فيها، وهي إرادة الغرضِ البلاغيّ لما زالَ الحُكْم، وهو التنكيرُ.
وهذا الذي ذكرتُ من أحكام التعريف بـ(أل) إنما هو نبذة مختصرة مهَّدتُّ بها لما بعدَها. ونأتي الآنَ إلى الآية الكريمةِ فننظر لِمَ عُرِّفت (السفينة) دونَ (الغلام) و(القرية)؟
ليس في هذه الآية دليلُ حالٍ ولم يجرِ للسفينة ذِكر فيعودَ التعريف إليها، فيبقَى إذن احتمالانِ:
الأول: أن يقال: إنَّ في قوله قبلُ: ((وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبًا * فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سرَبًا)) [آية 60، 61] ما يُشبِه الذكر للسفينةِ، ذلكَ أنَّه ذكرَ أن موسى عليه السلام بلغَ البحرَ. وهذا يجعلُ السامعَ كالمنتظرِ لذكر ما يحملُهم في البحرِ، وهو السفينةُ، فعلى هذا يكون مرجِعُ (أل) مفهومًا من ذِكْر غيرِهِ، فلذلك عرَّفَها. أما الغلام والقرية فلم يتقدَّم قبلَهما ما يؤذِن بذكرِهما.
الثاني: أن لا يكونَ ثمَّةَ مرجِعٌ لـ(أل) فيكون تعريفُها تعريفًا لفردٍ منها غيرِ معلومٍ لدى السَّامعِ من طريقِ المجازِ (استعارة مكنيَّة)، كأنَّه يخبِرُك أنَّ هذا الشيءَ معروفٌ لديك ويدعوك إلى تذكُّر صفاتِه، كأنَّه قالَ: (أرأيت هذا الشيءَ المعروفَ بعظمتِه وبحملِه الأثقالَ والبشرَ، فإنَّ الخضِر خرقَه). وذلك كثيرٌ في مقامات التهويل أو التعظيم. وإنما ذلك ليبيِّن عِظم ما فعلَه من خرقِها في عين موسى عليه السلام. وآية ذلك أنه قال بعدُ: ((لقد جئت شيئًا إمرًا))، والإمر أشدُّ من النُّكر. ولهذا عرَّف (السفينة) ولم يعرِّف (الغلام) إذْ كان خرْق السفينة سببًا لهلاكِ نفوسٍ كثيرةٍ وقتلُ الغلام إنما هو هلاك نفسٍ واحدةٍ. هذا مع كونِ أصحابِ السفينة محسنينَ بحملِهم فيها بغير أجرٍ كما قيلََ وكونِهم مساكينَ أيضًا كما ذكرَ الله بعدُ.
وزعمَ الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور أنَّ لامَ (السفينة) للعهد الذهنيِّ [التحرير والتنوير 6 / 375] ومثَّل لها بـ((وأخاف أن يَّأكله الذئب))، وذكرَ في هذه الآية الأخيرة آيةِ يوسفَ أنَّها لتعريف الجنسِ [السابق 5 / 231]، فإن كان يريدُ بلام (السفينة) العهدَ الذهنيَّ كما قال في موضعها فإما أن يكون قصدُه بالعهدِ الذهنيِّ أن يكونَ بين المتكلِّم والمخاطَب عهدٌ سابِقٌ فيه فيكونُ الشيخُ لم يبيِّن في لامِ السفينة كيفَ هذا العهدُ أوَّلاً، ويكونُ هذا المعنى ثانيًا غيرَ صالحٍ إجراؤُه في الآيتين، ويكون قد ناقضَ كلامَه ثالثًا لأنَّ لامَ الجنس أو الحقيقة غير لامِ العهدِ. وإن كان قصدُه بالعهد الذهنيِّ أن يكونَ المتكلِّم يريدُ بهِ فردًا مبهمًا من أفراد الحقيقة من حيث عهدُه إيَّاه في ذهنِه فهذا أوَّلاً معنًى لا يصِحّ لأنَّه حين إذٍ ليس معرفةً حقيقةً ولا مجازًا، وثانيًا لو قدَّرنا أنَّه معرفةٌ في ذهنِ المتكلِّم فليس بمعرفةٍ عند المخاطبِ، والتعريفُ إنما هو للمخاطبِ لا للمتكلِّم كما أنك لا تأتي إلى رجلٍ خالي الذهن وتقول له: (اشتريتُ الكتاب) وقرأتُه إذا كان لا يدري أيُّ كتابٍ هذا الكتاب. ولا ينفعُك أن يكون معروفًا عندكَ إذا كانَ مجهولاً عندَه. ومثل هذا الضميرُ، فإنَّك لا تقول لخالي الذهنِ أيضًا: (جاء إليَّ فأكرمته) إذا كان لا يعرفُ هذا الذي أضمرتَ عنه. وثالثًا يكون ناقض كلامَه السابقَ إذ جعلَ لام (الذئب) للجنس، والجنسُ كما ذكرتُ غيرُ العهدِ. ويكون رابعًا غيرَ مزيلٍ للإشكالِ ولا كاشفٍ عن وجه البلاغةِ إذ لِمَ لمْ يُعرَّف (الغلام) أيضًا (القرية) بهذا القصد؟
وإن كان يريدُ بلام (السفينة) الجنسَ فهو أولاً لم يبيِّن وجه البلاغة فيهِ ولا علةَ التفرقة بينه وبين (الغلام) و(القرية)، وسمَّاه بغير اسمِه ثانيًا، ولا يصِحُّ ثالثًا أن يسمَّى تعريفًا للجنس لأنَّ المعرَّف إنما هو فرْد من أفرادِه.
وزعمَ الدكتور فاضل السامرائيُّ أن سبب تعريف (السفينة) أنَّه جاءت سفينةٌ مارّةٌ فناداها الخضرُ وموسى فعرفوا الخضرَ فحملوهما بدون أجر [لمسات بيانية في نصوص من التنزيل 41]. أما الغلام فإنهما لقياه في طريقهم وليس غلامًا محددًا معروفًا. والردُّ على هذا هو ما ذكرنا آنفًا من أن مقتضى التعريفِ أن يَّكون معروفًا للمخاطبِ لا للمتكلِّم.
وأمَّا بيتا امرئ القيس فأولهما قولُه:
مِسحٍّ إذا ما السابحات على الونَى ** أثرن الغبارَ بالكَديد المركَّلِ
وهذه هي الرِّواية الحُسنى، فقد أراد أن يصِفَ سرعةَ جريِ فرسِهِ وأنَّه إذا كان بينَ الجِيادِ السابحاتِ وقد بلغَ منهنَّ الإعياء مبلغَه وجعلن يُثرن الغبارَ لسرعةِ جريهنَّ وكرمِهنَّ وجدتَّ فرسَه ينصبُّ في جريه انصبابًا ولا يقصِّر عنهنَّ. و كانت (الغبار) بالتعريفِ أحسنَ وأبلغَ لأن هذا موضِع تهويلٍ وتوكيدٍ، كأنَّه يريدُ أن يردَّك إلى تذكُّره بحقيقتِه، فكأنه يقول: إنهنَّ يُثِرن الغبارَ المعروفَ من غيرِ تجوُّزٍ. وهذا أبلغُ في الدّلالة على سرعة جريِهنَّ ثم الدلالة على سرعة جريِ فرسِهِ.
وأما الآخَر فقولُه:
فعنَّ لنا سِربٌ كأنَّ نِعاجَه ** عذارى دوار في ملاءٍ مذيَّلِ
وهذه هي الرِّواية الحُسنَى، وذلك أن الشاعرَ أرادَ أن يصفَ قطيعَ البقرِ الذي صادفه في صيدِه فشبَّهَه بالعذارى إذا لبِسنَ ملاءًا، وهو ضربٌ من اللِّباس يُلتحَف به، وكان هذا المُلاء مذيَّلاً أي سابغًا في حالِ طوافهنَّ حولَ دَوَار، وهو صنم من أصنامهم. وذلك أنَّ البقرَ تكون بيضَ الظُّهور سود القوائم، وكذلك العذارى في الملاءِ المذيَّل، وأنَّ البقرَ يلوذ بعضها ببعضٍ، وكذلكَ العذارى حولَ الصنمِ.
وإنما كان التنكير هنا أحسنَ لأنَّ المَقام ليس مَقام تعظيمٍ أو نحوِه، وإنما هو وصفٌ مجرَّد لا مبالغةَ فيه، وليس ذِكرُ (المُلاء) على العذارى بالذي يدعو إلى العجبِ، وليس تعريفُه بالذي يخدُم غرضَ الشّاعر ومقاصِده في شعرِه. والبلاغة ليست كلُّها في المبالغة أو التهويلِ، وإنما البلاغة أن تضعَ كلَّ شيءٍ موضعَه وتخاطبَ كلَّ امرئٍ بما يعقلُه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق