أصله دروس في الإملاء لم تكتمل نُشرت في ملتقى أهل اللغة من 16/ 8/ 1429هـ إلى 29/ 12/ 1429هـ.
قد علمتَ أنَّ حروفَ العربيةِ تسعةٌ وعشرونَ حرفًا - على الصحيح -، لكلِّ حرفٍ منها صورةٌ خاصَّةٌ بهِ لا تتغيَّرُ، فالعينُ مثلاً صورتُها (ع) والميم (م). والياءُ صورتُها على التحقيقِ (ي) لا (ى) كما يَرسمُها بعضُ أهلِ الأقطارِ لأنَّها إذا كانت تُنقَط في الوصلِ فالقياسُ نَقطُها في الانفصال أيضًا، ولأنَّ في تركِ نَقطها التباسًا لها بالألف المقصورة، والرسمُ مبنيٌّ على إزالةِ اللَّبسِ.
قد علمتَ أنَّ حروفَ العربيةِ تسعةٌ وعشرونَ حرفًا - على الصحيح -، لكلِّ حرفٍ منها صورةٌ خاصَّةٌ بهِ لا تتغيَّرُ، فالعينُ مثلاً صورتُها (ع) والميم (م). والياءُ صورتُها على التحقيقِ (ي) لا (ى) كما يَرسمُها بعضُ أهلِ الأقطارِ لأنَّها إذا كانت تُنقَط في الوصلِ فالقياسُ نَقطُها في الانفصال أيضًا، ولأنَّ في تركِ نَقطها التباسًا لها بالألف المقصورة، والرسمُ مبنيٌّ على إزالةِ اللَّبسِ.
وذلكَ في ما خلا الهمزةَ والألفَ، فإنَّه ليس لهما صورةٌ ثابتةٌ، فأما الألف فيأتي التفصيلُ فيها. وأما الهمزةُ فإنها تُكتبُ مرَّةً (أ) وأخرَى (ؤ) وثالثةً (ئ) ورابعةً (ء)، فهي كما رأيتَ تفتقر في الغالب إلى كرسيٍّ تستوي عليهِ. وهذه صِفةُ ضَعفٍ فيها. وذلكَ أنَّ من العربِ -وهم أهلُ الحجازِ- من يحوّلها غالبًا إلى حرف مدٍّ، فيقولُ مثلاً: (راس) في (رأس) و(مُوَن) في (مُؤَن) و(بير) في (بئْر). فلمَّا ابتدعَ الخليل (ت175) صورةً للهمزةَ، وإذْ كانَ المصحفُ مبنيًّا على مذهب أهل الحجاز في التخفيفِ وضعوها فوقَ ما تُخَفَّفُ إليهِ، فـ(مومنون) [بدون نقط] أصبحت (مؤمنون). ولو رُسِمت على مذهبِ من يُحقّقُ الهمزةَ أي ينطقُها، لوجَب أن تُرسَم على ألفٍ في كلِّ حالٍ وتكون صورتُها أبدًا واحدةً كسائرِ الحروفِ، فتصبح (مؤمنون) (مأمنون)، ولكنهم اتّبعوا في رسمِ الهمزةِ في المصحفِ مذهبَ التخفيفِ حتى لا يغيِّروا في رسمِ المصحفِ بعد ما استقرَّ. ثمّ غلبَ هذا في سائرِ الخطّ لأن رسم المصحف هو الأعرفُ والأشهرُ، فكان لذلكَ أحقَّ بالاتّباعِ. وهذا هو الأصلُ الأولُ من أصولِ الإملاءِ، وهو أنَّ الهمزةَ تُرسَمُ بحسبِ ما تئولُ إليهِ إذا خُفِّفتْ.
فإن قيل: وما فرقُ ما بينَ الهمزةِ والألفِ؟
فإن قيل: وما فرقُ ما بينَ الهمزةِ والألفِ؟
فالجواب أنهما حرفانِ متباينانِ، لكلِّ واحدٍ منهما مَخرجٌ، فأمّا الهمزةُ فمخرجُها كما يَرى علمُ الأصواتِ الحديثُ الحَنجرةُ. وربما سمَّوها (الألفَ اليابسةَ) إذا رُسِمت على ألفٍ. والألفُ مخرجُها من الجوفِ. ثمَّ انبنَى على اختلافِ حقيقتيهما أن اختُصَّ كلٌّ منهما بخصائصَ، فالهمزةُ لها رسمها الذي ذكرنا، والألف تُرسَم في الأصلِ (ا)، وربَّما رُسِمت (ى)، والهمزة تكون في الكلِمِ أصليةً وزائدةً ومنقلبة عن أصل، والألفُ لا تكون إلا زائدة أو منقلبةً عن أصل، ولا تكون أصليةً. والهمزة يمكن تحريكها، والألف لا تكون إلا ساكنةً مفتوحًا ما قبلها. ولذلكَ لا تقعُ في أولِ الكلمةِ لامتناعِ الابتداء بساكنٍ.
وإذا عرفتَ حقيقةَ الهمزةِ فاعلمْ أنها تقعُ أولَ الكلمة ووسطَها وآخرَها، مثَلُها مثَلُ سائرِ الحروفِ.
أولاً : الهمزةُ في أوَّل الكلمة
اعلمْ أنَّ الأصلَ في الهمزةِ أن تُنطقَ في البدءِ والوصلِ أي إذا بدأتَ بها كلامَك وإذا تقدَّمَها كلامٌ، حالُها في ذلكِ حالُ سائرِ الحروفِ، فتقولُ مثلاً في الاسمِ: (هذا أمرٌ) وفي الفعلِ: (لا أفعلُ) وفي الحرف: (لي أو لكَ)، فقد رأيتَ بالتجرِبةِ أنّك نطقتَ الهمزةَ في الحالينِ حالِ الوصلِ وحالِ البَدءِ. وتسمَّى حينَ إذٍ (همزةَ قطعٍ). وتقعُ في أولِ الكلمةِ ووسطها وآخرِها. فإن وقعت في أولِ الكلمةِ فإنْ كانت مفتوحةً كـ(أَحمد) أو مضمومةً كـ(أُجاج) كُتِبت فوقَها. وإن كانت مكسورةً كـ(إيمان) كُتِبت تحتَها. وإنَّما لزِمت الألفَ لأنَّ الهمزةَ لا تُخفَّف إذا كانت في أوَّل الكلمةِ، فلذلك بقِيت صورتُها واحدةً.
ولكنهم ربَّما احتاجوا أن ينطقُوا الهمزةَ في بعضِ المواضعِ إذا ابتدءُوا بها كلامَهم، فإذا وصلوها بكلامٍ قبلَها حذَفوها ، ويرسُمونها ألفًا من غيرِ همزةٍ (ا)، ويسمّونَها حينَ إذٍ همزةَ وصل. ولا تكون إلا في أوَّل الكَلِمِ، ولا تكون في وسطها ولا في طرَفها. وإنَّما فعلوا ذلكَ لعللٍ ثلاثٍ نذكرُها بعدَ قليلٍ.
فإن قلتَ: ولِمَ جعلوا لها صورةً معَ أنها لا تُنطَق إلا في البدءِ؟
فالجواب أنَّ الإملاء مبنيٌّ على النظرِ إلى حالِ الكلمة في البدءِ والوقفِ. وهذا هو الأصل الثاني من أصولِ الإملاء. وكلُّ ما أولُه همزةُ وصلٍ فإنك إذا ابتدأت به ووقفتَ عليه نطقتَ الهمزةَ كما في (اِسم) و(انطلاق).
- مسائل همزة القطعِ:
- المسألة الأولى: إذا اتصلَ بهمزة القطعِ حرفٌ قبلَها فهل تكون في حُكم المتوسِّطة؟
قد يَلحق بهمزة القطعِ في أوَّلها بعضُ الحروفِ فلا تُغيِّر حكمَ أوَّليَّتِها. وذلك إذا كانت تلكَ الحروفُ في حُكم المنفصِلةِ كحُروف الجرِّ نحو (بِأمنٍ) وحروف الاستفهام نحو (أَأَنت؟) وحروف التنفيسِ نحو (سأُصلّي).
فإن كانت هذه الحروفُ في حُكم المتَّصلة. وآيةُ ذلكَ أنها لا تُعربُ إعرابًا منفصِلاً نحو (يُؤْمن) فإنك تنقُلُ حكمَها إلى حُكمِ المتوسِّطة.
- المسألة الثانية: حُكم وصلِ همزةِ القطعِ:
لا يَجوز وَصلُ همزةِ القطعِ أي حذفُها في درجِ الكلام وكتابتُها كما تُكتب همزةُ الوصلِ إلا في ضرورةِ الشِّعرِ على قبحٍ. ومنه قولُ الشاعر:
* إن لَّم أقاتل فالبِسُوني برقُعا *
* وفتَخاتٍ في اليدينِ أربعا *
يريد فألبسوني.
- عللُ همزة الوصلِ:
زادتِ العربُ في كلامِها هذه الهمزةِ لعللٍ ثلاثٍ هي:
الأولى: التوصُّلُ إلى النطقِ بالساكنِ. وذلك أنَّ مِن الكلمِ كلِمًا مبدوءة بحرف ساكن. ولما كانتِ العربُ لا تبتدئ بساكنٍ اجتلبت همزةً متحرِّكةً لتتوصَّلَ بها إلى النُّطقِ بالسَّاكنِ. فإذا ابتدأتْ بكلامٍ قبلَها حذفتْها لزوالِ الغرضِ منها. وهذا من لطيفِ حكمتِها ومن البرهان على سلامةِ علِلِها.
ويطَّرِدُ هذا في موضعينِ:
الأوَّلُ: أمرُ الفِعل الثلاثيِّ نحو: (اُكتُبْ) وماضي الفِعل الخماسيّ والسداسيِّ وأمرُهما ومصدرُهما، فالخماسيُّ نحوُ (انطلقَ، انطلِقْ، انطِلاق) والسداسيّ نحوُ (استغفرَ، استغفرْ، استغفار). وحِسابُ الحروفِ إنَّما هو للماضي، فـ(اكتبْ) ثلاثيَّة لا رباعية لأن ماضيَها (كتبَ).
فلمّا سكنت أوائلُ هذه الأفعالِ احتاجوا إلى همزةِ وصلٍ قبلَها.
فإن قلتَ: كانَ يُمكِنهم أن يفتحوا أوائلَها فيستغنوا عن اجتلابِ همزةِ وصلٍ لها فيقولوا مثلاً: (نَطَلَقَ) في (اِنطلقَ)، وكانَ يُمكِنُهم أيضًا أن يجعلوا همزةَ الوصلِ همزةَ قطعٍ كما فعلوا في الرباعيِّ مثلِ (أكرمَ).
فيقال: إنَّما صدفُوا عن الفتحِ فرارًا من ثِقَل توالي أربعِ حركاتٍ في الخماسيِّ نحو (نَطَلَقَ) وكراهيةً لاجتماعِ أربعِ حركاتٍ بينها ساكنٌ في الصحيحِ اجتماعًا لا يبرَحُ في السداسيِّ خِلافًا للمبدوء بتاء المطاوعةِ نحوِ (تباعدَ) و(تقطَّعَ)، فإنهما بناءان فرعيَّانِ أصلُهما (باعدَ) و(قطَّعَ).
وأمَّا لِمَ لمْ يجعلوها همزةَ قطعٍ فذلك أنَّهم لو جعلوها كذلكَ لكانَ يجِبُ أن تفيدَ معانيَ كالتعديةِ والاعتقادِ وغيرِها. وهذا مناقِضٌ للمعاني التي تُفيدُها صيغتا الخماسيِّ والسداسيِّ كالمطاوعةِ في نحو (انطلقَ) والطلبِ في نحو (استغفرَ).
وإذا ثبتَ وجهُ العلّةِ في ماضي الخماسيِّ والسداسيِّ فاعلمْ أنَّ الأمرَ منهما والمصدرَ محمولٌ عليهما. وذلكَ أنَّ القاعدةَ توجِب اشتقاقَ فعلِ الأمرِ من المضارعِ بحذفِ ياء المضارعة، فإذا أردنا أن نصوغَ الأمرَ من (ينْطلِقُ) حذفنا ياءَ المضارعةِ فتصبح الكلمة (نْطَلِقْ) ساكنةَ الأوّل فنجتلبُ لها همزةَ وصلٍ. ومثلُ هذا أمرُ السداسيّ وأمرُ الثلاثيِّ. أمَّا المصدَر فمن شأنِهم أن يُعِلّوه بإعلالِ الفعلِ كما قالوا: (لذتُ لِياذًا).
الثاني: الألفاظُ المحكيَّة [أي التي يُراد كتابتُها كما تُنطَق] إذا كان أولُها ساكنًا كحكايتك لفظَ (اِمْحمَّد) في كلامِ العامَّةِ، وكلمةَ (اِقْرُوب) [group] في الإنجليزيةِ مثلاً. وإن شئتَ حذفتَ همزةَ الوصلِ وحكيتَها مبتدأةً بساكنٍ لأنَّ الصحيحَ أنَّ الابتداءَ بساكنٍ ممكنٌ في الواقعِ. وهو كثيرٌ في اللغاتِ الأعجميَّةِ.
العلة الثانية: التعويض عن المحذوفِ. وذلكَ أنَّ في العربيةِ كلماتٍ حَذفت العربُ منها حرفًا للتخفيفِ فبقيت على حرفينِ فأرادت أن تعوِّضَ عن هذا الحرفِ المحذوفِ حرفًا آخرَ فلم تشأ أن يكونَ العِوضُ في درجةِ المعوَّضِ عنه فاختارت همزةَ الوصلِ في نحو (اِسم) لأنها تُنطَق في البدءِ وتُحذَف في الوصلِ. ولهذا نظائرُ منها أنها عوَّضت بالتاءِ المربوطة في نحوِ (عِدة) لأنها ترجع في الوقفِ هاءًا، والهاءُ حرفٌ خفيٌّ مهموسٌ يُشبِه الألفَ. ومنها أنها جمعتْ بعضَ ما حُذِف منه حرفٌ جمعَ مذكر سالمًا ابتغاءَ التعويضِ كما في نحوِ (سنون) و(عِضون) لأنَّ الجمعَ طارئٌ. ومنها أنها أشبعت حركاتِ الأسماء الستّةِ على قول المازنيِّ إذا أضيفت إلى غير ياء المتكلّم لأنَّ الإضافةَ شيءٌ عارِضٌ. ومنها أنها عوضت عن المحذوفِ بالتضعيف كما في (دمّ) و(أبّ) و(أخّ) و(فمّ) في لغةٍ لأنَّه يُحذف في الوقفِ. كلُّ ذلك لكي لا يكون العِوضُ في درجةِ المعوَّضِ عنه. وهذا سرٌّ لطيفٌ لم أجِد من أشارَ إليهِ.
فإذا تبيَّن لك أنَّ من عللِ اجتلابِ همزةِ الوصلِ طلبَ التعويضِ فاعلمْ أنَّ ذلكَ محصورٌ في أسماءٍ تسعةٍ، وهي (اسم واست وابن وابنة وابنم وامرؤ وامرأة واثنان واثنتان).
فإن قلتَ: قد علمنا أنَّ اسمًا واستًا وابنًا وابنة وابنمًا واثنين واثنتين محذوفة اللامِ، فنحتمِلُ فيها دعوى كونِ الهمزةِ للتعويضِ، ولكنَّ امرأً وامرأة لم يُحذف من أصولهما شيءٌ، فكيف زعمتَ أنَّ الهمزةَ فيهما للتعويضِ؟
فالجواب أن (امرأ) أصله (مرْءٌ) – وهو مستعمَل -، فتصرَّفوا فيهِ كما تصرَّفوا في غيرِهِ فحذفوا اللامَ فقالوا: (مَرٌ) – وهو مسموع -، فلمَّا حذفوا اللامَ أرادوا التعويضَ كما عوَّضوا في (اسم) فزادوا في أوَّلِهِ همزةَ وصلٍ وأعادوا المحذوفَ معًا فصارَ (امْرؤ). وهم من مَّا يفعلُون ذلكَ كما قالَ النابغةُ – وهو من شواهد سيبويه -:
فالجواب أن (امرأ) أصله (مرْءٌ) – وهو مستعمَل -، فتصرَّفوا فيهِ كما تصرَّفوا في غيرِهِ فحذفوا اللامَ فقالوا: (مَرٌ) – وهو مسموع -، فلمَّا حذفوا اللامَ أرادوا التعويضَ كما عوَّضوا في (اسم) فزادوا في أوَّلِهِ همزةَ وصلٍ وأعادوا المحذوفَ معًا فصارَ (امْرؤ). وهم من مَّا يفعلُون ذلكَ كما قالَ النابغةُ – وهو من شواهد سيبويه -:
* كليني لهمٍّ يا أُميمةَ ناصبِ *
فغيَّروا الأصلَ، وذلكَ بالحذفِ، ثمَّ بنوا على التغييرِ حُكمًا إذْ زادوا همزةَ الوصلِ، فلمَّا راجعوا الأصلَ بردِّ المحذوفِ لم يغيِّروا الحُكمَ المنبنيَ على التغييرِ، وهو زيادةُ الهمزةِ، أي أنَّ العلةَ زالتْ وبقيَ الحُكمُ. وآيةٌ أخرَى على ذلكَ أنَّ عينَه تتبعَ لامَه في الإعرابِ، تقولُ: (هذا امرُؤٌ ورأيتُ امرَأً ومررتُ بامرِئٍ) لأن العينَ قبلَ استعادةِ المحذوفِ كانت هي محلَّ الإعرابِ.
فإن قلتَ : إنَّه لم يبلغنا عنهم أنهم قالوا: (امْرٌ)، فكيف تزعمُ أنها كانت كذلك ثمَّ راجعوا الأصلَ فقالوا: (امْرؤ)؟
قلتُ: ليس كلُّ تغييرٍ صرفيٍّ ينبغي أن يكونَ استعملته العربُ، ألا ترَى أنك تدَّعي في (خطايا) ونحوِها تغييراتٍ أفضت إليها معَ أنَّ العربَ لم تستعملها. وإنما أدّاك إلى هذا قياسُك على أصولِ العربِ ومقاصدِها التي تنحُو إليها في كلامِها.
أمَّا (امرَأَة) فإنما هي (امرَأ) بزيادةِ تاء التأنيثِ، فلمَّا فتحُوا الهمزةَ لأجلِ تاء التأنيثِ أتبعُوا الراءَ حركتَها ففتحوها للعلةِ التي تقدَّمَ بيانُها.
واعلمْ أنَّك إذا ثنيتَ ما يجوزُ تثنيتُه من هذه الأسماء التّسعةِ أو زدتَّ في آخرِهِ ياءَ النسَبِ فإن همزتَه تبقَى همزةَ وصلٍ، تقولُ: (هذا اسمان وابنان...) و(الجملة الاسمية). فإذا جمعتَ أحدَها جمعَ تكسيرٍ رددتَّ المحذوفَ وحذفتَ همزةَ الوصلِ وزدتَّ في اللفظِ الأحرفَ التي يقتضيها الجمعُ لأنَّ جمع التكسير يرَدُّ الأشياءَ إلى أصولِها نحو (الأسماء) و(الأبناء)، فقد جعلتَها (سمو) و(بنو) ثمَّ صُغتَها على (أفعالٍ) فأصبحت (أسماو) و(أبناو) فأبدلت الواو همزةً لتطرفها بعد ألف زائدة فأضحت (أسماء) و(أبناء)، فالهمزةُ إذًا همزةُ الجمعِ لا همزةُ الوصلِ.
العلة الثالثة: كثرةُ الاستعمالِ.
ويطَّرد ذلك في موضعينِ:
الأولُ: حرفُ التعريفِ (أل)، ويعاقِبُه (أم) في لغة طيِّئ وحمير، تقولُ: (الكِتاب) و(الرَّجل). وفي الحديثِ: (ليس من امبرِّ امصيامُ في امسفرِ). وذلكَ أنَّ الصوابَ أنَّ أصلَها (أل) بالقطع مثلُ (هلْ) وِفاقًا لابنِ كيسانَ، فلمَّا كانت من مَّا يكثرُ استعمالُه في كلامِهم جعلوا همزتَها همزةَ وصلٍ ليكونَ أخفَّ عليهم، يشهدُ لذلكَ أنَّهم أظهروها في بعضِ الألفاظِ كلفظِ الجلالةِ في النداءِ (يا أللهُ) والقسمِ (أفأللهِ). وظهورُها في بعضِ المسموعِ دليلٌ على الأصلِ المتروكِ. ولا يُقالُ: إنّها همزةُ وصلٍ قُطعتْ. لأنَّ ذلك شاذّ، ألا ترَى أنه لو صَحَّ ذلكَ لبلغَنا في الأفعالِ المبدوءِة بهمزةِ وصلٍ ومصادرِها شواهدُ في قطعِها. ولم يبلغنا إلا في ضرورةِ الشِّعرِ. ويشهدُ له أيضًا أنهم فتَحوا الهمزةَ، ولو كانت همزةَ وصلٍ لكانَ القياسُ كسرَها. ثمَّ ليس ببدعٍ أن يّخفف اللفظُ لكثرةِ استعمالِهِ، ألا تراهم حذفوا نونَ (لم يكن) وياء (لا أدري) ونونَ (مِن) في لغةٍ، فلأن يحذفوا الهمزةَ وهي حرفٌ واحدٌ، في الوصلِ فقط أهونُ عليهم وأيسرُ.
أمَّا كتابةُ بعض المتأخرينَ (البتة) هكذا (ألبتة) وزعمُهم أنَّ الوجهَ فيها القطعُ فخطأ محضٌ ناشئ عن وهمٍ. وليس لِما يدَّعون شاهِدٌ من السَّماعِ ولا عاضدٌ من القياسِ، بل القياسُ يَنفيه أشدَّ النفيِ. كما إنه لا يعرفه السابقونَ الأوَّلونَ من العلماءِ. ولو عرفوه لذكروه ولو واحدٌ منهم. ولعلَّ سببَ هذا الوهم أنَّ الذي أذاعَه قرأ في صحيفةٍ (البتة: القطع)، وهذا معناها اللُّغويُّ، فتوهَّمها هكذا (البتة بالقطع) أي بهمزة القطعِ.
الثاني: كلمة (ايمُن) في القسمِ وفرعُها (ايم) بحذف النونِ. وذلك أنَّ أصلَ (ايمن) أنها جمع (يمين) وِفاقًا للكوفيِّين، فلمَّا كثرَت في كلامِهم خفَّفوها كما خفَّفوا (أل) التعريفِ، غيرَ أنَّ الأصلَ هنا مستعمَل، فيجوز لكَ أن تقطعَ الهمزةَ فتقول: (أيمُن) و(أيم). وجوازُ قطعِ الهمزةِ شاهِدٌ على أنها جمعُ (يمينٍ). وشاهدٌ آخرُ، وهو فتحُ الهمزةِ. ومن مَّا يدلّك على كثرة دوَران القسمِ في كلامِهم التماسُهم التصرُّفَ والتخفيفَ فيهِ، فقد حذفوا فعلَه واستغنوا عنه بأكثر من حرفٍ، وهي الباء والواو والتاء واللام، وحذفوا خبرَه في نحو (لعمركَ لأفعلنَّ) ولم يعتدّوا بالقسم فاصِلاً في الإضافةِ، وبعد (إذن) الناصبةِ وغيرها. فلأن يحذفوا حرفًا واحدًا من جملةِ القسمِ في الوصلِ فقط أهونُ وأيسرُ.
- مسائلُ همزة الوصل:
- المسألة الأولى: إبدالُ همزةِ الوصلِ إلى همزةِ قطعٍ.
ولذلكَ ثلاثةُ مواضِعَ:
الأول: ضرورةُ الشعرِ كقولِ حسان بنِ ثابت:
وشقَّ له من إسمِه ليُجِلَّه ** فذو العرشِ محمودٌ وهذا محمَّدُ
وقولِ جميلِ بثينةَ:
ألا لا أرى إثنينِ أحسنَ شيمةً ** على حدَثان الدهْرِ منِّي ومن جُمْلِ
وقولِ الآخَر:
لا نسبَ اليومَ ولا خُلَّةً ** إتَّسعَ الخَرقُ على الراقعِ
وهذا في ضرورةِ الشعرِ قياسٌ يشمَل كلَّ ما أوَّلُه همزةُ وصلٍ.
الثاني: الأفعال والحروف المبدوءة بهمزة وصلٍ إذا نقلتَها إلى العلميةِ، تقولُ: (هذا محلُّ إِجلِس) و(هذه قناة إقرَأ) و(جاء إستغفِر) في رجلٍ لقِّبَ بهذا لكثرةِ لهَجه بهِذه الكلمة، وتقولُ: (" أل " أداة تعريف) تقطعُها لأنها أصبحت علَمًا.
فإن قلتَ: وما وجهُ علميَّتِها ؟
قلتُ: لأنَّها تنتمي إلى جنسِ الحروفِ، فوسموها بسِمةٍ تتميَّزُ بها عن سائرِ أفرادِها إذا أرادوا الإخبارَ عنها، وذلكَ هو الاسمُ العلمُ عليها. فأمَّا إذا شاءوا أن يخبِروا بها لا عنها كقولِهم مثلاً: (القمَر)، فإنَّها لا تكونُ علَمًا. وآية ذلكَ أنَّك تقولُ: (أل: حرف تعريف) فتخبِرُ عنها. فلولا أنَّها اسمٌ معرِفةٌ لما جازَ ذلكَ.
أمَّا الأسماءُ فلا يَجوز لك أن تقطعَها إذا سمَّيتَ بها لأنه إنما جازَ لك القطعُ في الأفعالِ والحروفِ دونَ الأسماءِ لأنَّ الأفعالَ والحروفَ إذا سُمِّيَ بهما خرجَا إلى حيِّز الأسماءِ فأصبحَ يجري عليهما أحكامُها، والأصلُ في الأسماء القطعُ كما تقدَّمَ.
أمَّا الأسماءُ فإنَّ التسميةَ بها لا تؤثِّرُ في اسميَّتِها شيئًا إذ هي أسماءٌ قبلَ التسميةِ وبعدَها، غيرَ أنها كانت منكَّرةً فأصبحت معرَّفةً. وهذا لا يسيغُ الحملَ على الغالبِ في الأسماءِ لأنَّها استحقَّت النادرَ أولاً، وهو الوصلُ، فإذا عرَّفتَها لم يكن تعريفُك لها سالبًا لها هذا الاستحقاقَ ولا رافعًا عنها هذا الحُكمَ. ولم يمكنهم أن يتجرءوا عليها كما تجرّءوا على الأفعالِ والحروفِ إذْ كانت الأفعالُ والحروفُ قد انتقلت من ديارِها وموطنِها إلى الأسماءِ، والداخلُ على قومٍ ليس منهم يتجرءون عليهِ ما لا يتجرءون على من هو منهم ولا يغفِرون له ما يغفرونه للآخَر كما قالَ خالدُ بنُ نَضلةَ:
إذا كنتَ في قومٍ ولم تكُ منهمُ ** فكل ما عُلِفتَ من خبيثٍ وطيِّبِ
أمَّا الأسماءُ فامتنعتْ منهم لمكانِها من القرابةِ التي تُدلي بها. ولو ساغَ لهم أن يقطعوا همزتَها حملاً على الغالبِ لوجبَ هذا قبلَ النَّقلِ. وهذا لا يجوزُ كما هو معلومٌ.
قال سيبويه: (وإذا سمَّيتَ رجلاً بـ"إضربْ" أو "أقتلْ" أو "إذهبْ" لم تصرفه وقطعتَ الألفاتِ حتى يصير بمنزلة الأسماء لأنك قد غيَّرتَها عن تلك الحال، ألا ترى أنك ترفعُها وتنصبُها. وتقطع الألفَ لأن الأسماء لا تكونُ بألفِ الوصلِ. ولا يُحتجّ بـ"اسم" ولا "ابن" لقلة هذا مع كثرة الأسماء...، وإذا سميتَه "انطلاقًا" لم تقطع الألفَ لأنك نقلتَ اسمًا إلى اسم...، وإذا أردتَّ أن تجعل "اقتربت" اسمًا قطعتَ الألفَ كما قطعتَ ألف "إضرب" حين سمَّيتَ به الرجلَ...، فإذا جعلتَ "إعضضْ" اسمًا قطعتَ الألفَ كما قطعتَ ألف "إضربْ" [الكتاب : 3 / 198 ، 199 ، 256 ، 319].
وقالَ الزجَّاج: (وإذا سمَّيتَ رجلاً "ابنٌ" وصلتَ ألفَه فقلتَ: "هذا ابنٌ قد جاء") [ما ينصرف وما لا ينصرف : 26].
فلذلكَ إذا سمَّيتَ امرأةً بـ(انتصار) أو (ابتهال) أو (ابتسام) لم تقطعِ الهمزةَ كما لا يَجوز لك أن تقطعَ همزةَ (الاثنين) علمًا لليومِ وإنِ ادَّعى ذلك مَن ادَّعى. وهذا هو الثابتُ قياسًا - كما مرَّ - وسَماعًا كما في مُعجَماتِ اللُّغةِ. ومن مَّا وردَ من الشِّعرِ قولُ حسان:
بأبي وأمِّي من شهدتُّ وفاتَه ** في يومِ الاثنينِ النبيُّ المهتدي
صلَّى الله وسلَّمَ عليه.
ويجوزُ قطعُها في الشِّعرِ كما جازَ قبلَ العلميَّةِ. ومنه قولُ العَرْجيِّ:
بعادلةِ الإثنينِ عندي وبالحَرَى ** يكونُ سواءًا منهما ليلةُ القدْرِ
فإن قيلَ: ولكنَّ الهمزةَ صارت جزءًا من الاسمِ العَلَم.
قلتُ:أجل، هي جزءٌ منه، ولكنَّها تظلُّ همزةَ وصلٍ كما كانت قبلَ النقلِ. وليس شيءٌ يوجب أن يكونَ الجزءُ من العلمِ يُنطَق في البدءِ والدرجِ. ولو قلنا بقطع همزةِ الاسمِ إذا أصبحَ علمًا احتجاجًا بهذه الحُجَّةِ لجازَ هذا أيضًا في الحرفِ فوجبَ أن تقولَ: (ألنُّعمان)، فتقطعَ همزته. وهذا بيِّن البُطلانِ.
ثمَّ إنَّ يوم (الاثنين) لم يَزل علمًا مذ عرفَه العربُ، فأيُّ شيءٍ استجدَّ لدى المتأخرينَ لم يكن في العُصُرِ الخالي!
الثالث: لفظُ الجلالةُ خاصَّةً في موضعينِ، أحدُهما في النداءِ نحو (يا ألله). ويجوزُ فيهِ الوصلُ (يا الله). والثاني في قولهم في القسمِ: (أفأللهِ لأفعلنَّ كذا).
فإذا استبانت لكَ مواضعُ همزةِ الوصلِ وأبصرتَ عللَها علمتَ أنَّ كلَّ اسمٍ أعجميٍّ منقولٍ إلى العربيَّةِ مستعمَلٍ فيها هو في لغتِهِ التي نُقِلَ منها مبتدئ بصوتِ الهمزةِ تُقطَع همزتُه لأنه ليس من مواضعِ همزةِ الوصل التي ذكرنا سواءٌ أكانَ مبدوءًا بساكنٍ نحو (إستراتيجية)، أصلُها (Strategy) أم كان مبدوءًا بمتحرِّكٍ كـ( E) نحو (إلكتروني)، أصلُها (Electronic) وغيرِها. وهذا إذا أردتَّ استعمالَ اللَّفظِ لا حكايةَ طريقةِ نطقِهِ، فإنك إن أردتَّ حكايةَ طريقةِ نطقِهِ فقد ذكرنا خبرَه في ما تقدَّمَ. وإنما وجبَ القطعُ هنا لأنك لمَّا نقلتَه إلى الأسماء العربيَّةِ وأجريتَه مُجراها وجبَ عليكَ أن تحملَه على الغالبِ فيها، وهو القطعُ، كما فعلتَ في الأفعالِ المنقولة إلى العلميةِ.
- المسألة الثانية: إذا اتصلَ بهمزة الوصلِ حرفٌ قبلَها فهل تكون في حُكم المتوسِّطة؟
اعلم أنَّ همزةَ الوصلِ إذا اتَّصلَ بها حرفٌ لا حاجزَ بينها وبينَه، وهو الفاء والواو، فإنك تبقيها على أوَّليتِها ولا تقدِّرُها في حكمِ المتوسِّطةِ فتكتبها (فاؤْمر - واؤمر) و(فائتِ – وائت). وإنما التزمتَ هذا لأنَّك لو غيَّرتَها هنا للزمَك هذا في همزة القطع فكنتَ تكتب (سأُصَلِّي) هكذا (سَؤُصَلِّي) على ما يقتضيه حكمُ المتوسطة كما سيأتي. وفي هذا تغييرٌ لصورةِ الكلمةِ تغييرًا مخِلاًّ. فإن تركتَها هناكَ وغيرتَها هنا كانَ في هذا تناقضٌ.
فإن قيلَ: قد ذكرتَ أنَّ الأصلَ الأوَّل من أصولِ الإملاءِ أنَّ الكلمةَ تُكتبُ بحسَب ما تئولُ إليه إذا خُفِّفت. ولو خففتَ (فائتِ) لقلتَ: (فاتِ)، فكان ينبغي أن تُكتب (فأتِ).
قلتُ: هذا الأصلُ الإملائيُّ ليس مطَّردًا إذ لو طردناهُ لكانَ فيهِ عُسرٌ على خاصَّة الناسِ، فكيفَ بعامَّتهم.
من أجلِ ذلكَ جعلنا هذا الأصلَ مرعيًّا إلا إذا عارضَ قاعِدة يُرادُ طردُها لأنَّ طردَ القواعدِ التي سنذكرُها والتي لا تَخرجُ عن هذا الأصلِ إلا قليلاً أيسرُ بكثيرٍ من طَرْد هذا الأصلِ وأخفُّ مئونةً على المتعلِّمِ من أن يكونَ المرجِعُ إليه وحدَه.
وإنَّما خرجنا عن هذا الأصلِ حتى لا تكثرَ الشواذّ والاستثناءاتُ والمسائلُ الفرعيََّة وحتى لا يقعَ التناقضُ بينَ حكمِ همزةِ القطعِ وحكمِ همزةِ الوصلِ وحتَّى لا يفضيَ هذا إلى الإثقالِ على المتعلِّم بشروطِ تحوُّلِها إلى حكمِ المتوسُّطةِ كوجوبِ كونها فاءًا أو واوًادونَ (ثمَّ) وكوجوبِ أن يكون ما بعدَ همزةِ الوصل أي فاء الكلمة همزةً.
وأمرٌ آخرُ يمنعُنا منَ الاعتداد بالأصلِ هنا، وهو أنَّ الأصلَ إنما يجري إذا جرَى على الكلمةِ المفردةِ. فأمَّا إذا اتصلت كلمةٌ بكلمةٍ فإنَّهما تُعدَّان كالمنفصلتينِ وتقضي في الثانية كما لو لم يتصل بها شيءٌ، ألا ترى لو أنك لم تعتدَّ بهذا لكان يجب عليك أن تكتب (ثم ائتوا) هكذا (ثم أتوا) لأنك إذا خففتَها نطقتَها كذا. فأمَّا إذا اتصلت بآخر الكلمةِ كلماتٌ أخرَى فإنك تعدُّها من تمامِ الكلمةِ لكثرة التغيير في الآخِرِ وكثرةِ ما يلحقونه بالكلمةِ من هذا المكانِ. ولم يفعلوا هذا في أول الكلمةِ لقلتِهِ.
- ثم اعلمْ أنَّ أحكامَ همزة الوصلِ التي ذكرنا كانَ الحقَّ أن تكونَ من مباحث علم التصريفِ لأنَّ الإملاءَ يتعلَّق برسمِ الكلمةِ وهل هو موافِقٌ للنطقِ أم غيرُ موافقٍ. وجميعُ أحكامِ همزةِ الوصلِ إنما يوافِق رسمُها نطقَها، فهي إذن جاريةٌ على الأصلِ، فلِمَ إذن ذكرنا أحكامَها هنا؟
إنما فعلنا ذلكَ لبُعدِ الناسِ اليومَ عن معرفةِ كيفيةِ نُطقِها، فلا يدرونَ مثلاً كيف ينطقونَ كلمة (الاستماع) أهكذا أم (الإستماع)؟ إلا بقيَّةً قليلةً لم تفسُد سليقتُها في هذا الأمر. ولو عرفَ الناسُ كيفَ ينطقونَها وأمثالَها لسهُل الأمرُ جدًّا ولقلنا لهم: (إذا أردتَّ أن تعرِفَ أتكتبُ الهمزة بالقطع أم بالوصل فضعْ قبلَها حرفَ الواو مثلاً، فإن نطقتَها فضعْ لها همزةً وإن لا فلا تضعْ)، ولكنَّ الذين تسعِفهم سلائِقهم بهذا قليلٌ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق