في البديل الفصيح
نُشر أوله في المجلة الثقافية في 23/ 4/ 1431هـ وسائره في ملتقى أهل اللغة في 19/ 5/ 1431هـ.
سأل سائل عن المرادف الفصيحِ للفظ (الزعل) في كلامِ العامَّة.
والجوابُ عن ذلك أنَّ لها أكثر من مرادف، فمنها (السّخط). ومنه قولُه تعالَى: ((ومنهم من يلمزك في الصدقاتِ فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يُعطوا منها إذا هم يسخطون)) وقولُ هُدبة بن الخشرم:
أنا المرءُ لا يخشاكم إن غضبتمُ ** ولا يتوقَّى سُخطَكم إن تغضَّبا
فـ(السخط) في هذين الموضعين دالٌّ على ما يَدلُّ عليه (الزعل).
ولها مرادف آخر، وهو (الموجدة)، يقال: (وجد في نفسه على فلان) إذا عثر له على ما يكرهه فأسرّه في نفسه وتغيّر عليه بسببه.
ولها مرادِفٌ ثالث، وهو (الغضب) إذ (الغضب) في العربية يشمل الحدثَ العارضَ المعروفَ الذي ينتابُ الإنسانَ، ويشمل أيضًا ما ينشأ عنهُ من ما يقع في النفس من النفورِ والهِجران للمغضوب عليه. وهو ما نسمّيه نحن (الزعَل). وإطلاقُه على الأول إطلاق حقيقيّ. وأما إطلاقُه على الآخَر فمجاز مرسَل عَلاقته السببية لأن الغضب هو المسبّب له والمفضي إليه، ثمَّ صارَ يسمَّى بهذا الاسم وإن لم يتقدّمه المعنَى الأول.
فأما النوع الأول من الغضب فهو الشائع. ومنه قولُ جرير:
أبني حنيفة، أحكِموا سفهاءَكم ** إني أخافُ عليكمُ أن أغضبا
وقولُ الحماسيّ:
وأيّ ثنايا المجد لم نطلع لها ** وأنتم غِضاب تحرُقون علينا
وأمَّا النوع الثاني فمن شواهدِه قولُ النبي عليه السلام لعائشة رضي الله عنها: (إني لأعلم إذا كنتِ عني راضيةً وإذا كنتِ عليَّ غضبى. فقالت: من أين تعرف ذلك؟ فقال: أما إذا كنتِ عني راضية فإنك تقولين: لا وربِّ محمد. وإذا كنتِ غضبى قلتِ: لا وربِّ إبراهيم. قالت: أجل. والله يا رسول الله، ما أهجرُ إلا اسمَك) [متفقٌ عليه].
فالمرادُ بغضبها هنا هو ما نسمّيه (الزعل) الذي يعقبُ الغضبَ عادةً. ولو كان المرادُ بذلكَ الغضبَ الذي تحمرّ منه العين، وتنتفخ منه الأوداج لكان ذلك أمرًا بيِّنًا ولم يحتَجْ إلى أن يلتمسَ عِرفانَه بقسمِها بربِّ إبراهيمَ. ولذلكَ جعلَ (الغضب) مقابلَ (الرضا) كما أنَّ (الزعلَ) في كلامِ العامة يقابلُه (الرضا) أيضًا.
ومنه قولُ جميل:
فإن تغضبوا من قسمةِ الله حظَّكم ** فلله إذْ لم يعطكم كانَ أبصرا
والمعنَى المرادُ هنا ليس المعنَى الأولَ للغضب، وإنما هو المعنَى الثاني الذي نسمِّيه نحن (الزعل).
ومنه قول الآخَر:
وما أنا للشيءِ الذي ليس نافعي ** ويغضب منه صاحبي بقئولِ
وحاصلُ هذا كلِّه أنَّ (السخط)، وكذلكَ (الغضب) في أحدِ معنييه يُقابلانِ لفظَ (الزعل) في كلامِ العامَّة. وأمَّا (الزعَل) فله في العربية معانٍ لا تدلُّ على معنى (السخط) أو (الغضب) إلا أن بعضَها أدنَى إلى المعنَى الذي تعرِفه العامَّة وأخلقُ أن يكونَ هو الأصلَ، ثم دخلَه التحريفُ.
و(الزعَل) في العربيَّةِ يرجِعُ إلى أصلٍ واحدٍ هو (النشاط والخِفَّة التي تعتري الشيءَ حتى لا يستقِرُّ).
وقد قالوا: (زعِلَ يزعَل زعَلاً، فهو زعِلٌ وزعلانُ) بمعنَى (قلِقَ وضجِرَ وأظهرَ الضِّيقَ والتلوِّي من مرضٍ أو همٍّ أو جوعٍ أو نحو ذلك).
غيرَ أنَّه بهذا المعنَى وقعَ فيه تبادلٌ حرَكيٌّ (قلبٌ مكانيٌّ) من (العلَز). ومعناه معناه. وإذا كان كذلك لم يثبُت به أصلٌ ثانٍ للجذرِ.
وفي بعض المعاجمِ (والزعِل: المتضوّر من الجوع). وهو بهذا التقييد غيرُ صحيحٍ من جهةِ أنَّ (الزعَل) في الحقيقةِ يشمَلُ التضوُّرَ من الجوعِ أو المرض أو الهمِّ كما ذكرنا. والذي يشهَد لذلكَ ثلاثةُ أمورٍ:
1- ما رواه أبو منصورٍ الأزهريُّ في «تهذيبه» عن أبي زيدٍ من أنّ (الزعِل) هو (المتضوِّر) من غيرِ تقييدٍ. و(التضوُّر) في اللغةِ لا يختصُّ به الجوعُ كما هو ثابتٌ في المعاجمِ وغيرِها.
2- ما ذكرَه أبو عمْرٍ الشيبانيُّ في (الجيم) من أنَّه هو المتضوِّر من الوجعِ لا يصبِر عليه. فإن لم تكن (الوجع) مصحَّفةً كانَ من المحتمَل أن تكونَ قد تصحَّفت في سائر المعاجمِ إلى (الجوع) أو يكون هذا تفسيرًا من بعض أصحاب المعاجم لكلام أبي زيدٍ السابقِ ذكرُه.
3- ما تواردَ عن عددٍ من علماء اللغةِ من أنَّه لا يختصُّ به الجوع كصاحبِ العين وابن السكيت معَ غيرِهم من مَّن فسَّر (الزعل) بـ(العلَز).
وقالوا أيضًا: (زَعْلة)، وهي (النعامة). وهي مبدَلة عن (الصَّعلة) كما حكى يعقوب في «إبداله»، فلا يثبت بها أصلٌ آخَرُ.
وقد يكونُ استِعمالُ العامَّةِ للزعَلِ بمعنى (السخط) و(الغضب) تطوّرًا دلاليًّا للمعنَى الثاني المتقدِّمِ ذكرُه، وذلكَ أنَّهما (أي: الضجَر والقلقَ والتلوِّي، والسخط والغضب) يفيدانِ جميعًا الانفعالَ وعدمَ الطُّمَأنينةِ والاستقرارِ النفسيِّ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق