في القياس
كُتب في 1/ 2/ 1433هـ ونشر في تويتر في 26/ 2/ 1436هـ.
س: هل يجوزُ استعمالُ القياس مع ورودِ السَّماع المغنِي عنه في بابِه؟
ج: الذي أَراه أنّ ذلك على ضربينِ:
الأوَّل: أن يردَ في البابِ صُورةٌ كثيرةُ الأفرادِ بحيثُ تكونُ هي الأكثرَ، ولكنَّ كثرتَها لم تهيمِن على البابِ حتى تشامَّ التَّمامَ. وذلكَ أن توجَد صُورٌ غيرُها تشرَكها في حظِّها من القِسمةِ وإن كانت هي الأكثرَ كأن تكون نسبتُها إلى جميع المسموعِ 60%، وهناكَ غيرُها 20% و10% و5% و5%، فهذا يجِبُ أن يُكتفَى باستِعمال السَّماع فيه ولا ينبغي تخطِّيه إلى القياسِ لأنَّه لم يستحكِم في البابِ الاستحكامَ كلَّه، بل ضعُف بما زاحمَه من غيرِه وتفرَّقت مظِنَّة قياسيَّتِه شَعاعًا في غيرِه من الصُّوَرِ. ومثالُ هذا مصدرُ الثلاثيِّ المتعدِّي لـ(فعَلَ) و(فعِلَ)، فإنَّ الأكثرَ فيه أن يجيءَ على (فَعْل)، ولكن هذه الكثرةَ ليست قريبًا من استيفاءِ السَّماعِ إذْ جاءَ مصدرُه على أبنيةٍ أخرَى كثيرةٍ كـ(فُعال) و(فِعْل) و(فَعول) وغيرِها، فلو قلتَ: (عَلِمه عَلْمًا) في (عِلْمًا)، و(سألَه سَأْلًا) في (سُؤالًا)، و(قَبِلَه قَبْلًا) في (قَبولًا) كنتَ مخطئًا، وذلكَ أنَّ السَّماعَ هو المقطوعُ بهِ من كلامِ العربِ، والقياس إنما هو آلةٌ ظنِّيّة لمعرِفةِ كلامِهم. ولا يصِحُّ الظنُّ بأنَّ ضربًا من السَّماعِ قد غلبَ على عقولِ العربِ الباطنةِ حتى اعتقدوه قياسًا مطَّردًا، وأخلدوا إليه إلا إذا كانَ هو المهيمِنَ على البابِ. ولا يكفِي أن يكونَ هو الأكثرَ نِسبةً. وفي هذا أخطأ عباس حسن حينَ أجاز قياسَ مصدر (فعَلَ)، و(فعِلَ) المتعدِّيين على (فَعْل) مع وجودِ السَّماع، فأجاز أن يقالَ: (علِمه عَلْمًا) [النحو الوافي 3/ 189].
الثاني: أن ترِدَ في البابِ صورةٌ غالبةٌ جدًّا على الباب بحيثُ تكادُ تستغرِقُه، فتكونُ نسبتها إلى مجموع السَّماع أزيدَ من 90% ويكونُ ما خالفَها نوادرَ تُعدُّ عَدًّا، فيجوز لك أن تستعمِلَ القياسَ وإن وردَ السَّماع بخلافِه. ومثالُه اسم المكان، فإن قياسَه في (فعَل يفعُل) هو (مفعَل)، ولكن قالتِ العربُ: (المشرِق) و(المسقِط)، وغيرَها. وقد قال في ذلك الفرّاءُ (ت207): (والفتح في هذا كلِّه جائزٌ وإن لم نسمعْه) [إصلاح المنطق لابن السكيت تح قباوة ص189. وانظر أيضًا شرح القصائد السبع الطوال للأنباري تح هارون ص241]. وقال أبو عليّ الفارسي (ت377): (وقد يجوز الشيءُ في القياسِ وإن لم يأتِ به سماعٌ كما جاز في القياس تعليلُ العين من (استحوذ) وإن لم يأتِ به سماعٌ) [الإغفال له 2/ 7]. وإنما صحَّ استعمال القياس مع ثبوتِ السَّماع المغني عنه والنائبِ مَنابَه من قِبَلِ قُوَّة قياسِه واستمرارِ اطِّرادِه حتَّى نفَى ذلك عنه الشركاءَ والأندادَ. وفي هذا دلالةٌ على أنَّه قد جرَى في نفوسِ العربِ مَجرى القوانينِ المطَّردة التي لا تنكسِر وحلَّ منها مَحلَّ العادةِ والإلفِ، فهم وإن شَذّوا في القليلِ النادرِ عنه لعِلَّة استهوتهم فعسَى أن يكونَ عدمُ علمنا باستعمالهم للسَّماع الموافقِ للقياسِ محمولًا على أنَّ العلماء لم يستوعبوا كلَّ ما قالتْه العربُ. على أنه لو ثبتَ أنَّهم لم يستعمِلوا القياس قطعًا حين جمع العلماءُ اللغةَ فإنَّ من الممكن أن يستعمِلوه من بعدُ أو يستعمِلَه بعضُهم لقوَّتِه وتمكّنه حتّى كأنَّ ألسنتَهم لا بدَّ أن تنازِعَهم إليه. وحتى لو لم يفعَلوا هذا فإنَّهم لو سمِعوه من غيرِهم لم يستوحشُوا منه ولم يرَوه متجافيًا عن قوانينِهم. وهذا كافٍ في جعلِه من كلامِهم.
وعلى هذا يجوز لك أن تقولَ: (وذرَ) في الماضي من (يذَرُ) وإن لم يُسمَع خلافًا لجمهور النّحاةِ لأنَّ استعمالَ الماضي من مَّا يُعرَف له مضارعٌ قد كثُر كثرةً غالبةً جدَّا حتَّى لم يشِذَّ عنه إلا هذه الكلِمة [وقد أجاز هذا ابن درستويه. انظر تصحيح الفصيح ص260، 467].
بناء على ما قررتم، هل يصح القياس في باب أمثلة الميالغة؟
ردحذف