الثلاثاء، 6 يونيو 2017

رأي في الفاصلة المنقوطة

في علامات الترقيم
نُشر في ملتقى أهل الحديث إجابةً عن سؤال في 17/ 8/ 1431هـ.
س: لمَ تركتَ استعمال الفاصلة المنقوطة في كتابك "رسالة في مسألة كل عام وأنتم بخير" ونبّهتَ على ذلك في المقدّمة؟
ج: خليلٌ دعا والرملُ بيني وبينَه ** فأسمعَني، سَقيًا لذلكَ داعيا
[الفرزدق]
ولكنْ عَداني أن أكونَ (أجبتُه) ** عقابيلُ أوصابٍ يُشبَّهنَ بالخَبْلِ
[ذو الرمَّة]
إنّه لتمرُّ بي أيَّامٌ ما شيءٌ أثقلَ عليَّ فيها من أن أخطَّ حرفًا. ولقد سألني أخي هذا السُّؤالَ وأرسلَ إليَّ يذمُرني إلى الجوابِ على حينِ أعالِجُ من نفسي هذه الحالَ التي وصفتُ، ثمَّ لم أكد حتَّى تسربلنِي طائفٌ من الحمَّى لم ينزِعني حتى أبلاني. وبينَ هذا وذاكَ كانَ الجوابُ.
كنتُ ولم أزل طويلَ التعهُّدِ لعلاماتِ الترقيمِ شديدَ التفقُّدِ لها. وكانَ من شأني أن أُصدِرَها عن قواعدِ النَّحوِ وأن أُقِيمَها على حدٍّ من الاطِّرادِ لا يتخلَّفُ ولا يتناقضُ. وكنتُ أحاولُ في (الفاصلة المنقوطة) ما أحاوِلُه في غيرِها من العلاماتِ، غيرَ أنَّه استبانَ لي بطولِ التجرِبةِ وكثرةِ الممارسةِ أنَّها مُقحَمةٌ في العلاماتِ إقحامًا وأنَّ من الخيرِ الاستغناءَ عنها. وأنا أشرحُ كيفَ ذلكَ.
مراجعة الغرض الأول:
لنمضِ إلى الغرضِ الأول الذي احتيج من أجله إلى هذه العلاماتِ فننظر أيقتضي هذه الفاصلةَ المنقوطةَ أم لا.
إنَّ الغرض من هذه العلاماتِ هو بيانُ الأواصرِ بينَ الجملِ وعَلاقةِ بعضِها ببعضٍ. وذلكَ لينتفيَ اللبسُ على القارئ.
والجُمَلُ إما أن يكون بعضُها متعلِّقًا ببعضٍ في المعنَى وإما أن لا يكون.
فإن كانَ متعلِّقًا فإنه يأتي على ضربين:
الأول: أن يكونَ متعلِّقًا بما قبلَه في الإعراب. وذلك نحو قوله تعالى: ((إنه من يتقِ ويصبرْ فإن الله لا يضيع أجرَ المحسنين)). فهذا لا يحتاج إلى علامة إذ ترك العلامة له علامة على اتصاله.
الثاني: أن لا يتعلَّق في الإعراب، ولكن يكونُ كالتَّمامِ لمعنَى ما قبلَه. وذلك كالجملةِ التي تكونُ جوابًا للنداءِ، نحو ((يوسفُ، أعرِض عن هذا)) أوللقسمِ نحو ((وتالله، لأكيدنَّ أصنامَكم)) أو الجملةِ التي تكون تعليلاً لما قبلها نحو (اتقِ الله، فإنه يراك) و((لا تحزن، إن الله معنا)).
وإن لم تكن متمّمة لمعنى ما قبلها وليست متعلقة به في الإعراب فحقُّها النقطة (.). وذلك نحو (الصدق أمانة. والكذب خِيانة).
وهذا الذي ذكرتُه هو أهمُّ مواضعِ وقوع هاتين العلامتين. وقد وجدتَّهما مغنيتينِ في الدلالة على هذا الغرضِ. وتسقطُ بينَهما الفاصلة المنقوطة لغوًا لانتفاء الحاجةِ إليها بمراجعةِ الغرض الأول من الوضع.
فحص القواعد الموضوعة للفاصلة المنقوطة:
زعموا أنه يؤتَى بالفاصلة المنقوطة بين الجمل الطويلة وقبل الجملة التي تكون سببًا لما قبلَها أو مسبَّبةً عنه. وهذا باطلٌ.
أمَّا الجمَل الطويلةُ فليس لها حدٌّ ينتهَى إليه أولاً ثمَّ لا علةَ لها معقودةً بالغرضِ الرئيسِ ثانيًا إذْ كيفَ كان الطُّول والقِصَر من مَّا يُعتدُّ به في بيانِ العلائقِ بينَ الجُمَلِ، فقد تكونُ الجملةُ الطويلةُ متعلِّقةً بما قبلَها غيرَ منفكّةٍ عنه كما تقول: (محمدٌ يقرأ كل يومٍ سورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام ....، ويصوم اليوم الأول والثاني والثالث ... من كل شهر). وقد تكونُ الجملة القصيرة مقطوعة الصِّلة بما قبلَها نحو (زيدٌ عالمٌ. وعَمْرٌ جاهلٌ).
وكذلك زعمُهم أنه يؤتَى بها قبل الجملة التي تكون سببًا لما قبلَها أو مسبَّبةً عنه، فإنَّ هذه العِلَّة لا بدَّ أن يكونَ لها اتِّصالٌ بالغرضِ الرئيسِ من وضعِ العلاماتِ، وهو بيان العَلائقِ. ولا فائدةَ من تخصيص هذا الأمر بعلامةٍ. والوجه في ذلك أن يُسبَق بالفاصلة غير المنقوطة لأنه تعليلٌ كما بُيِّن آنفًا.
جِماعُ الخلل الواقع في هذا البابِ:
1- ردُّ قواعدِ الترقيم إلى غير العِلة الأولى كما فعل أحمد زكي حين ردَّها إلى الوقف أو كردِّها إلى الطُّولِ والقِصَر أو عدمُ ردِّها إلى علةٍ البتةَ كما يفعلُ أكثرُهم. والصوابُ أن تُردَّ إلى النَّحو لاطِّرادِ أحكامِه ولكونِه الأصلَ الذي ينبني عليه كثيرٌ من المسائلِ كمعرفة الوقفِ وأنواعِه.
2- بناء القواعد على أمورٍ لا حدَّ لها كالطول والقِصَر.
3- الاجتزاء ببعضِ ما ينشقُّ عن العِلَّة الأولَى كاجتزائهم بالسببية والمسبَّبية وتركِهم مواضعَ أخرَى توجد فيها العِلَّة نفسُها.
4- مخالفةُ القاعدةِ الرئيسة عن القواعد الفرعيَّة كما فعلَ أحمد زكي حيثُ زعمَ أن الفاصلة غير المنقوطة تكون بين الجمل التي يكون بينها ارتباط في المعنى لا في الإعراب. ثمَّ ذكرَ من مواضعها أن تكون بين الجمل المعطوف بعضها على بعض نحو (خير الكلام ما قل ودلَّ؛ ولم يطُل فيمل). والصواب أنَّ جملة (ولم يطُل فيمل) متعلقة بما قبلها في الإعراب والمعنَى إذ كانت معطوفة عليها.
إلى غيرِها من التناقضات.
ومنها أن بعضَهم يضعُ هذه الفاصلة قبلَ (لأنَّ) نحو قولك: (أتيت إليك؛ لأني أحبك). وهذا خطأ بالنظر إلى ما قعدوا. وذلك أنَّ (لأنَّ) وما بعدها في تأويل مفرَدٍ لا جملةٍ. وهم إنما يَرون وضع هذه الفاصلة قبلَ الجملةِ التي تكونُ سببًا لما قبلَها، وليس قبلَ المفرَد.
والحديث أوسعُ من ذلك شُعوبًا وأطولُ ذيولاً. وإنما ذكرتُ ما لا بُدَّ منه ليضِح الجواب ويستبين الصواب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق