في أنواع الكلمة
نُشر في ملتقى أهل اللغة في 14/ 1/ 1430 هـ.
لو ادَّعى مدَّعٍ أنَّ (مِن) اسمٌ بدليلِ أنّها تقعُ موقعَ (بعضٍ) وأنّها تقعُ في موضع الفاعل حيثُ لا فاعلَ، وموضعِ المفعول حيثُ لا مفعولَ. فأمّا وقوعُها موقِع (بعض) فأوضح مثالٍ عليهِ قراءة الجمهورِ: ((لن تنالوا البرَّ حتى تنفقوا من ما تحبون)) وقراءة ابن مسعود: ((حتى تنفقوا بعضَ ما تحبون)) . وأمّا وقوعُها موضع الفاعل حيثُ لا فاعلَ فمثلُ قوله: ((ولقد جاءك من نبأ المرسلين)). وأمَّا وقوعها موضع المفعول حيثُ لا مفعولَ فمثلُ قوله : ((فشربوا منه إلا قليلاً منهم)).
فما أصرحُ دليلٍ على الفرق بينهما يمكنك أن تُجيب به؟
المعوَّل عليهِ في التفرقة بين أصناف الكَلِم هو الحَدُّ لا العلاماتُ إذ الحدُّ موضوعٌ لبَيانِ حقيقةِ الشيءِ وتمييزِه عن غيره. فإذا أردنا معرفةَ شيءٍ من الكلمِ وإلى أيِّ صنفٍ من الأصنافِ الثلاثةِ ينتمي عرَضناه على الحدِّ بعدَ تمحيصِه والاطمئنانِ إلى سلامتِه والاستيثاق من دوَرانه طردًا وعكسًا .
فإذا استبهمَ علينا الحدُّ ولم يهدِنا النظَرُ فيهِ ثمّ النظرُ إلى الكلمةِ المرادِ معرفةُ صنفِها إلى يقينٍ قاطعٍ استعنَّا بالنظر في العلاماتِ والخواصِّ التي أعطيَتها هذه الكلمةُ إذ لكلِّ صِنفٍ من الأصنافِ خواصُّ لا يشرَكه فيها غيرُه توجَد في بعض أنواعِه دونَ بعضٍ. وهي خواصُّ اقتضتها طبيعتُه كدخولِ حرف التعريف على الأسماء دونَ غيرِها، فإنما ذلكَ لأنَّ الفعلَ ليسَ اسمًا لشيءٍ ثابتٍ فيقبلَ التعريفَ والتنكيرَ ولأنَّ الحرفَ ناقصُ الدّلالةِ لا يتِم معناه إلا بغيرِهِ.
وينبغي قبلَ النظر في العلاماتِ أن ننظرَ في الحدودِ لأنَّ العلاماتِ ربَّما تخلَّفت كما في (عدا، وخلا) في الاستثناء، وربَّما انتقضت كما في (أقائلُنَّ أحضروا الشهودا)، وربَّما اختُلِفَ فيها كما في لحاقِ ياء المتكلم معَ نون الوقاية اسمَ الفعلِ (عليكَني)، على أنَّ ادِّعاءَ أنّ ما يسمونَه (أسماءَ فعالٍ) أسماءًا فيهِ نَظرٌ.
أمَّا الحدودُ فإنها متى أُحكِمت لم يتطرَّق إليها خللٌ ولم يمسسها خوَرٌ. والنحاةُ كثيرًا ما يُقدِّمون حكمَ العلامات على حكمَ الحدودِ كما فعلوا في (ليسَ) فعدوه فِعلاً، والحقُّ أنه حرفٌ كما قالَ أبو بكر بنُ شُقيرٍ وأبو علي الفارسيّ. وذلكَ لدلالةِ الجنس ودلالةِ العلاماتِ المطردةِ والغالبةِ. أمَّا لَحاق التأنيث الساكنة وضمائر الرفعِ بها فله توجيهٌ ليس هذا موضع بسطه.
ونرجعُ إلى حدي الاسمِ والحرف.
حدُّ الاسمِ: كلمةٌ دالَّة على معنًى في نفسِها غيرِ مقترنٍ بزمنٍ محصَّلٍ.
وحدُّ الحرفِ: كلمةٌ دالّةٌ على معنًى في غيرِها فقط.
وإذا نظرنا في (بعضٍ) وجدناها تدلُّ (بنفسِها) على ذاتٍ، تقولُ: (هألاء بعض الناسِ، وهألاءِ بعضٌ)، فلا تحتاج إلى اسمٍ بعدها تتمِّمُ به معناها لأنّ (بعضًا) تُفهِم بنفسِها صورةً تامَّةً إذا كانَ معلومًا بالسياقِ الجنسُ الذي يُنمى إليه هذا (البعض) كما تقولُ: (هألاءِ نِصف الناسِ، وهألاءِ نِصفٌ). ولولا أنَّ (بعضًا) و(نصفًا) من الألفاظِ العامَّةِ التي تُطلَق على أجناسٍ متعدِّدة مختلِفةٍ لما احتجتَ إلى وضعها في كلامٍ ليستبينَ لك معناها تامًّا. وليس صوابًا قولُ مَن ادَّعى أنَّ التنوين في (بعضٍ) تنوينُ عوضٍ، فإن تنوينَ التمكين سابقٌ لهُ، فأيَّ شيءٍ أفادَ هذا التنوينُ الجديدُ. والذي أدخلَ عليهم اللبسَ أنَّ هذا اللفظَ ونحوَه كـ(جزء) و(كلّ) و(نصفٍ) منَ الألفاظِ العامَّة التي ليسَ لها حقيقةٌ ثابتةٌ، وإنما تطلَقُ على كلِّ ذي أفرادٍ من أيِّ جنسٍ كانَ. فلهذا كان قولُك: (هألاءِ بعضٌ) كقولك: (هألاءِ قومٌ) إلا ما ذكرتُ من اختلافِ النوعينِ من جهةِ الانحصارِ والعمومِ.
أما (مِن) فإنها وإن قاربت (بعضًا شيئًا من المقاربةِ فبينَهما عندَ التحقيقِ فرقٌ، وهو أنَّ (مِن) لا يُفهَم معناها إلا بغيرِها، فلا تقول: (هألاء مِن) حتى تأتيَ بعدَها باسمٍ.
فهذا بشيءٍ من الاختصارِ بيانُ الاختلافِ بينهما في الحدِّ وصدقِ انطباقِه عليهما.
أمَّا الخواصُّ فضربانِ/ خواصُّ مطَّرِدةٌ وخواصُّ غالبةٌ، فالخواصُّ المطرِدةُ يكتفَى بها وتوجِب المصيرَ إلى لازمِها. والخواصُّ الغالبةُ يؤخذ بها متى عُدِمت المطرِدة ولم ينكشف الحدُّ. وهي التي تُسمَّى في (قوانين الاحتجاج) بـ(الحمل على الغالبِ)، على أنَّ ذكرَها هنا داعٍ للاستئناسِ وتثبيتِ الرأيِ.
وإنَّما احتجنا إلى النظر في الخواصِّ لأنَّ الحدَّ ربّما يخفَى أحيانًا أو يكونُ غيرَ صريحِ الدِّلالةِ أو ربما لا نعلَم قصدَ العربِ في اللفظِ نفسِهِ، ولأنَّ النظرَ في الخواصِّ أيسرُ أيضًا وأقلُّ مئونةً على الناظرِ.
أمَّا الخواصُّ المطردةُ فمنها أنك تقول: (إن من البيانِ لسحرًا) وتقولُ: (إنَّ بعضَ البيانِ لسحرٌ). وهذه علامةٌ تركيبيةٌ بيِّنةٌ كلَّ التبيُّنِ.
ومنها عدمُ قَبولها علامةً من علاماتِ الأسماء.
وأمَّا الخواصُّ الغالبةُ فمنها:
1- عدمُ اشتقاقِ الكلمةِ.
2- كونُها على حرفينِ كما يغلب على الحروف.
3- بناؤها.
4- أنَّ معنى التبعيض فيها لم يدلَّ عليه اللفظُ بالوضعِ إذ الأصل في معنى (مِن) الابتداءِ كما أن الأصل في معنَى الباء الإلصاقُ، وإنما دَلَّ عليه بالتفرّع عن المعنَى الأصليِّ. وهذا أشبُه بالحروف.
وبقِيَ أيضًا أن نذكرَ قانونًا من قوانينِ الاحتجاجِ آخرَ، وهو قانونُ عدمِ تردُّد الشيء الواحد بينَ حقيقتينِ أو معنيينِ ما أمكنَ، وذلكَ أنك إذا جعلتَ (مِن) مرةً اسمًا ومرةً حرفًا كانَ هذا أقربَ إلى أن يخالِفَ ناموسَ اللغةِ لأنَّ حقيقةَ الاسميةِ مباينةٌ كلَّ المباينةِ حقيقةَ الحرفيةِ. والحرفُ إذا وُضِع لمعًنى مَّا وكان له حقيقةٌ ثابتةٌ لم ينتقل من حقيقته إلا بمجازٍ مقبولٍ أو توسُّع متصوَّرٍ في الذهنِ جارٍ على عوائدِ التطوُّرِ. ولذلك ذكر سيبويه أنَّ جميع معاني الباء راجعةٌ إلى الإلزاق والاختلاط.
أمَّا (ما) فإنما كانت في بعض حالاتها اسمًا وفي الأخرى حرفًا لأنهما وضِعتا على هاتين الحقيقتين وضعًا واحدًا واتفقتا في الصورة. وليس أحدُهما تطورًا من الآخر أو توسُّعًا فيه لمناقضة هذا لقوانينِ التطور. وهذا يَجري على أكثرِ حروفِ الجرِّ، فإن كثيرًا من النحاةِ، ولا سيَّما مَن يقِف عند المعنى الظاهرِ كابن مالكٍ [وقد أشار إلى هذا الشاطبيُّ في أكثر من موضعٍ] لا ينظرونَ إلى أصولِ المعاني وأسبابِ التوسُّع فيها. وظنِّي أن الذي حملَهم على هذا وَلوعهم بالاستكثارِ من الإحصاءِ كما فعلوا في علاماتِ الاسم ومسوغات الابتداء بالنكرةِ وإنْ كانت كلُّها ترجِعُ إلى شيءٍ واحدٍ.
أمَّا استدلال هذا المدَّعي اسميتها بوقوعها موقِع (بعض) فليس دليلاً لأنّ اسم الفعلِ –وهو اسمٌ على رأيِهم– يقعُ موقِع الفِعل، تقولُ: (انزل) و(نزالِ) و(اسكت) و(صه)، ولأنّ (ليس) -وهو فعل عندهم- يقع موقِع (ما) وهي حرف، ولأنَّ بعض حروف الجرِّ كحرف الباء يقعُ أيضًا موقع الاسمِ (بدل) ونحوِه، وهو حرفٌ باتّفاقٍ في ما أعلمُ.
وأما وقوعُها موقِع الفاعل حيثُ لا فاعلَ، وموقع المفعول حيث لا مفعولَ فعلى حذفِ الفاعلِ والمفعولِ لدلالتِها عليهِما كما حُذف المبتدأ في قوله: ((وما منا إلا له مقامٌ معلومٌ)) وغيره.
***
لا شكَّ أن النظَر إلى الكلمةِ بعد تركيبِها ابتغاءَ معرفةِ حقيقتِها من مَّا يُحتاجُ إليهِ، ولكن على أن لا يناقِضَ ذلكَ الحدودَ الموضوعةَ أو يفرِّق بينَ المتماثلين. وأنا ذاكرٌ الآنَ شيئًا من أثرِ التركيبِ في الاستدلالِ على الحقائقِ، وذلكَ في صنفين:
الأول: أن يلتبس الغرضُ من وضعِ العرب للفظٍ من الألفاظِ فيُفزع إلى العلاماتِ لمعرفته. من ذلكَ اختلافُهم في (لمَّا) و(إذْما) و(مهما) أسم هي أم حرفٌ. وهذا مذهبٌ صحيحٌ مقبولٌ.
الثاني: أن يكونَ الحدُّ دالاًّ على نوعِ الكلمةِ، ولكن يعارِضُه بعضُ العلاماتِ فيأخذَ النحاةُ بها ولا يلتفتوا إلى دلالةِ الحدِّ. وهذا المذهبُ مرفوضٌ لأنَّ العلاماتِ دَلائلُ تركيبيةٌ، والحدودَ دلائلُ إفراديةٌ، والعلاماتِ من لوازمِ الجنسِ، وقد تتخلَّف أو توجد في غيرِ موضعِها، وربَّما لم يسلَّم بها، والحدود هي السبيلُ إلى معرفة الجنسِ ذاتِه لا لازمِهِ. والنظرُ إلى المفردِ مقدَّم على النظرِ إلى التركيبِ، والنظر إلى الجنسِ مقدَّم على النظر إلى لازمِه. ومن أمثلة ذلك عندهم:
1- ادِّعاؤهم أنَّ (هلمّ) في لغة الحجاز اسمٌ، وفي لغةِ تميم فِعلٌ، لا لفرقٍ في الدلالة، وإنما لأنَّ الأول لا تتصل به الضمائِر، والثاني تتصلُ بهِ.
2- ادِّعاؤهم أنَّ (عسى) فِعلٌ، ولكنَّه إذا اتصلَ بها ضميرُ نصبٍ صارت حرفًا من أخواتِ (إنَّ) الناصبةِ كما قال الشاعرُ:
* فقلتُ: عساها ضوءُ نارٍ، وعلَّها *
معَ أنَّ دلالتَهما واحدةٌ.
3- ادِّعاؤهم أنَّ الكافَ و(على) و(مِن) حروفٌ، ولكنَّه إذا دخلَ عليها حرفُ جرٍّ أصبحت أسماءًا كقول الراجز:
* يضحكن عن كالبَردِ المنهمِّ *
والآخرِ:
* غدت مِن عليه بعد ما تمَّ ظمؤها *
والآخر:
* مِن عن يميني مرَّةً وأمامي *
4- ادِّعاؤهم أنَّ (أل) حرفٌ، ولكنه إذا وليَها صفةٌ صريحةٌ فهي اسمٌ.
5- ادِّعاؤهم أنَّ (إذ) اسمٌ، فإذا كانت للتعليلِ والمفاجأة كانت حرفًا (وهذا رأي بعضهم).
6- ادِّعاؤهم أنَّ (ما) تكون اسمًا في مواضعَ وحرفًا في مواضعَ أخَرَ.
7- ادِّعاؤهم أنَّ (عدا) و(خلا) تكونان أفعالاً وتكونانِ حروفًا.
8- ادِّعاؤهم أن واو الجماعة وألف الاثنين أسماءٌ، فإذا وقعتا في لغة (أكلوني البراغيث) كانت حروفًا.
وهذا الصنف مطَّرَحٌ مرفوضٌ في مُعظَمه إما لعدمِ ثبوت الدليلِ على اختلافِ الحقيقتينِ كما في (أل)، أو لثبوت أن أحدَهما أعمُّ من الآخرِ وأنه أصلُه كما في (إذْ)، أو غير ذلك.
ولا يُصار إلى ادِّعاء أن العربَ وضعتِ الكلمةَ على وضعينِ إلا إذا امتنعَ حملُ إحداهما على الأخرى كما في (ما) الحرفية والاسميةِ، و(خلا) و(عدا).
ولا يُعتدُّ بالنظر في العلاماتِ بادئَ الرأيِ لإثبات التفرقةِ لأن العلاماتِ أمرٌ عارضٌ بعد التركيب، والتركيبُ لا يغيِّر الحقائقَ إذ هي ثابتة قبله، ولكنَّه من مّا يستدَلّ به عليها عند عدَم معرفتِها.
وأمّا (منذ) و(مذ) فمِن الصنفِ الأولِ لأنا لم ندرِ غرض العربِ منه، أفأرادوا في نحو قولهم: (ما رأيته منذ يومانِ) أن يجعلوا (منذ) لفظًا مستقِلاً بنفسِه معناه (أمدُ ذلك) أم أرادوا أن يجعلوه لفظًا معناه لغيرِه، فيكون بمعنى (مِن)؟
فلمَّا اشتبه على النحاة أمرُه انقسموا ثلاثة أقسامٍ، فبعضهم رأى حرفيتَه وأوَّلَ ما أوهمَ الاسميَّة من استعمالاته، وبعضٌ رأى اسميَّته وأوَّل ما أوهم الحرفيةَ. وبعضٌ رأى اسميته في مواضع وحرفيته في مواضعَ أخَرَ.
وعندي أنَّ أضعفَها الوجهُ الثالثُ لأنَّه لا فرقَ بين معنى ما ادُّعي فيه الاسمية منهما ومعنى ما ادُّعي فيه الحرفيةُ. ألا ترى أنهم يقولون: (إذا وليَهما مجرورٌ فهما حرفانِ، وإذا وليَهما مرفوع أو جملةٌ فهما اسمانِ)، فعلَّقوا معرفة حقيقتها على ما بعدَها إذا رُكِّبت لا على معناها.
والأرجح عندي أنهما حرفانِ لأسبابٍ يطولُ ذكرُها.
أبا قصيٍّ، أحسن الله إليك، ونفع بك، مقال نافع ماتع، وإذا أذنتَ سألتُك: هل قال قائل باسمية (من) التبعيضية، فإنه يُخيّل إليّ أن قد قرأت شيئًا كهذا، وإلا.. فلعلي حين قرأت مقالتك -قبل زمان-أخطأت فظننت ذلك.
ردحذفسلمك الله. نعم، حكى هذا السيوطي في "الهمع" عن الزمخشري.
حذف