في الممنوع من الصرف
نُشر في 23/ 8/ 1428هـ.
لا يجيز العلماء في نحو (معانٍ) مجرورًا إلا حذف الياء والتنوين، وذلك كقولك: (استمعت إلى معانٍ مفيدة). ولا يقال: (استمعت إلى معانيَ مفيدةٍ) إلا في ما كان علمًا، قالَ المبرّد :(إن احتاج الشاعر إلى مثل جوارٍ فحقه -إذا حرك آخره في الرفع والخفض- أن لا يجريه، ولكنه يقول: مررت بجواريَ كما قال الفرزدق:
فلو كان عبد الله مولًى هجوته ** ولكن عبد الله مولى مواليا
فإنما أجراه للضرورة مجرى ما لا علة فيه) [المقتضب / 1: 143]، وقالَ ابن جني: (وكذلك قوله:
أبيت على معاريَ فاخراتٍ ** بهن ملوَّب كدم العباطِ
هكذا أنشده: على معاريَ، بإجراء المعتل مجرى الصحيح ضرورة. ولو أنشد: على معارٍ فاخرات، لما كسر وزنًا ولا احتمل ضرورة) [الخصائص / 2: 298، هنداوي]. وقالَ ابن مالك: (المنقوص الذي نظيرُه من الصحيح غيرُ منصرفٍ إن كان غيرَ علمٍ كجوارٍ وأعيمٍ، تصغير أعمى، فلا خلافَ أنه في الرفعِ والجرّ جارٍ مجرى قاضٍ في اللفظِ، وفي النصبِ جارٍ مجرى نظيره من الصحيح، فيقال: هألاء جوارٍ... ومررت بجوارٍ... ورأيتُ جواريَ... وكذا إن كان علمًا في مذهبِ الخليلِ وسيبويه وأبي عمْر وابن أبي إسحاق. وأما يونس وأبو زيدٍ وعيسى والكسائي فيقولون في قاضي، اسم امرأة: هذا قاضي، ومررت بقاضي...) [شرح الكافية الشافية / 2: 96، دار صادر]، وقالَ الشاطبي: (هذا لا تقوله العربُ في السعةِ أصلاً) [شرحه على الألفيةِ / 5: 686].
أما ما نُقِلَ إلينا من ما يخالف هذا عن بعضهم فغلطٌ منهم إذ خلَطوا بينَ مسألة (جوار) نكرةً ومسألةِ (جوارٍ) علمًا. وقد ذكرتُ آنفًا مقالات العلماء في التفريقِ بينهما وأنَّ العربَ (لا تقولُ ذلك في السعةِ أصلًا).
ولِيتبيَّنَ وجه الغلطِ أسودَ مظلِمًا وازن بينَ قولِ المحلّي –وليس بالمعروف– وقولِ ابن مالكٍ،
قال المحلي:
(الإعراب فيه [يعني نحو جوارٍ] مقدر إلا عند يونس وأبي زيد والكسائي، فإنهم يظهرون الأخيرة فيقولون: مررت بجواريَ. ومنه عندهم قول الفرزدق :
* ولكن عبد الله مولى مواليا*
وهو عند غيرهم محمول على الضرورة).
وقال ابن مالكٍ:
(وكذا إن كان علمًا في مذهبِ الخليلِ وسيبويه وأبي عمْر وابن أبي إسحاق. وأما يونس وأبو زيدٍ وعيسى والكسائي فيقولون في قاضي، اسم امرأة: هذا قاضي، ومررت بقاضي).
ولِيتبينَ الغلطُ أكثرَ من ذلك انظر إلى ما قالَ سيبويه في كتابه:
(وأمّا يونس فكان ينظر إلى كلّ شيء من هذا إذا كان معرفة كيف حال نظيره من غير المعتل معرفة، فإذا كان لا ينصرف لم يصرف، فيقول: هذا جواريْ قد جاء، ومررت بجواريَ قبل. وقال الخليل: هذا خطأ، لو كان من شأنهم أن يقولوا هذا في موضع الجرّ لكانوا خلقاء أن يلزموها الجر والرفع إذ صار عندهم بمنزلة غير المعتلّ في موضع الجرّ، ولكانوا خلقاء أن ينصبوها في النكرة إذا كانت في موضع الجرّ فيقولوا: مررت بجواريَ قبل ، لأنَّ ترك التنوين في ذا الاسم في المعرفة والنكرة على حال واحدة) [الكتاب / 3: 312، هارون].
فأنت تراه نقلَ عن يونسَ شيخِه أنَّ خلافَه إنما هو في نحوِ (جوارٍ) إذا كانَ معرفة، أي: علمًا.
ولو كانَ يونسُ يقولُ بهذا لم يلزمه الخليلُ برأي يقولُ به إذ قالَ: (ولكانوا خلقاءَ أن ينصبوها في النكرة إذا كانت في موضع الجرّ فيقولوا: مررت بجواري قبل، لأنَّ ترك التنوين في ذا الاسم في المعرفة والنكرة على حال واحدة).
فإذا كانوا كما ترى قد أخطئوا في نقلِ قولِه فجائزٌ أن يخطئوا في نقلِ قولِ غيره.
هذا ما كتبته بما بدا لي من الرأي والنظر ثم وقفت بعد ذلك على نصّين نفيسين يظاهران ما ذهبتُ إليه ويبيّنان صوابه:
1- قال أبو حيان –وهو غاية في سعةِ الاطلاعِ ومعرفة الخلافِ-: (وما آخره ياءٌ قبلَها كسرةٌ يكونُ جمعًا متناهيًا نحو: جوارٍ... فهذا يُنوَّن في الرفع والجر وتظهر الفتحة بغير تنوين في النصب. وما كان منه علمًا فمذهب يونس وأبي زيد وعيسى والكسائي وأهل بغداد أن الفتحة تظهر في حالة الجر كما تظهر في النصب ويمنع التنوين مطلقًا فتقول: قام جواريْ، ورأيتُ جواريَ، ومررت بجواري... ومذهب أبي إسحاق وأبي عمْر والخليل وسيبويه وجمهور أهل البصرة أنه يُنوَّن رفعًا وجرًّا وتحذف ياؤه فيهما ويُتمّ في النصب ولا ينون. وما ذكره أبو علي من أن يونسَ وهألاء ذهبوا إلى أنه لا تحذف الياء إذا كان جوارٍ نكرةً ولم يُسمّ به فتقول: هن جواريْ ومررت بجواريَ، فلا يُنون، وهَم وخطأ ومخالفة للغة العرب والقرآن) [ارتشاف الضرب / 2: 889، 890، مكتبة الخانجي.
2- قال ابن عقيل في شرح قول ابن مالك في "التسهيل": (ويُحكم للعلم منه عند يونسَ بحكم الصحيح إلا في ظهور الرفع)، قالَ ابن عقيل:
(فإذا سميتَ بجوارٍ قلت عند يونس: هذا جواري، بإثبات الياء وإسقاط التنوين، ومررت بجواريَ... وهو أيضًا قول أبي زيد وعيسى والكسائي والبغداديين. ومذهبُ سيبويه وجمهور البصريين أنه يبقى على ما كان قبل العلمية... وقوله [أي: قول ابن مالك]: (للعلمِ منه) يُخرج النكرة، فلا يفعل يونس فيها ذلك، بل هو فيها كغيره، وكذا من ذكر معه من القائلين بقوله. ووقع للفارسي وهم في ذلك فنقل عنهم في النكرة أيضًا ما قالوه في العلمِ) [المساعد / 3: 30، 31، طبعة أم القرى].
قلتُ: لعلّ مَن قالَ بقولِ الفارسيّ ناقلٌ عنه ومعوِّلٌ عليه، فبخطئِه أخطأ.
***
8/ 3/ 1440هـ.
تذييل:
ثم وجدت بعد ذلك بنحو عشر سنين أبا جعفر النحاس (ت338هـ) في "صناعة الكتّاب 145" يجيز إثبات الياء في نحو (معاني) مجرورًا نكرة كان أو علمًا. وهو غير مذهب يونس الذي أثبتنا أنه مقصور على العلم. فيجوز على مذهب أبي جعفر أن يقال: (استمعت إلى معانيَ مفيدة). وأجدني أميل إلى ذلك لحجج ليس هذا موضع بسطها وبيانها إذ كان الغرض من هذا الحديث تحقيق مذاهب العلماء في هذه المسألة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق