في المفعول لأجله
نُشر في ملتقى أهل اللغة في 21/ 5/ 1430هـ.
نُشر في ملتقى أهل اللغة في 21/ 5/ 1430هـ.
س: ما إعراب (جوعًا) في قول الشاعر:
* تموت الأُسْد في الغابات جوعًا *؟
ج: تُعرَب كلمة (جوعًا) مفعولاً لأجلِه على الراجح، وذلك أنَّالجوع هو سببُ الموتِ. وأنا أبيِّن إن شاء الله كيفَ كان الجوعُ سببًا ثم أحقُّ المفعول لأجله أن يكون سببًا أم حقُّه أن يَّكون مسبَّبًا؟ ولِمَ لا يُعرَب حالاً؟
فأما كونه سببًا فجليٌّ، ولكني أذكرُه ليُستهدَى به إلى ما يُشكِل من الأمثلة الأخرَى فأقول:
إنما كان الجوع سببًا لأمرينِ لا يتخلّفان في كل سببٍ، أولُهما أنَّ وقوعَ مسبَّبه، وهو الموت، إنما هو متعلِّق بوقوعه، فلما وُجِد الجوعُ وُجِدَ الموتُ. وثانيهما أنَّه متقدِّمٌ عليه في الزَّمَن، وذلك أنَّه لا يكونُ الشيءُ متعلِّقًا وجودُه بآخرَ حتى يكونَ ذلك الآخَر سابقًا له في الوجودِ كما تقضي بذلك البديهة العقليَّة. والجوعُ كما هو معلومٌ سابقٌ للموت. وهذا الأمر الثاني لازمٌ من لوازمِ الأوَّلِ.
وهذه جملةٌ من الأمثلة نُجري عليها ما قدَّمنا من الكلام، فمنها قولُه تعالى: ((يجعلون أصابعَهم في آذانِهم من الصواعق حذرَ الموت))، فهل كان الحذرُ سابقًا للفِعل أم كان الفِعلُ سابقًا للحذرِ؟
لا ريب أنَّ الحذرَ هو السابقُ إذ هو الذي حملَهم على أن يجعلوا أصابعهم في آذانهم.
وقال: ((ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله)). وظاهرٌ أنَّ ابتغاءَه مرضاةَ الله هو الذي جعلَه يفعلُ ذلك، فهو إذن سابقٌ له.
ومثالٌ آخر على ذلك قوله:
* لا أقعدُ الجبنَ عن الهيجاءِ *
وليس أحدٌ يقعد عن الحرب يريدُ بذلك الجبنَ، ولكنَّ الجبنَ هو الذي يُقعِد عن الحربِ.
وتقول: (جئتُ رغبةً في التعلم) وأنت لم تجئ لترغبَ في التعلُّم، ولكنَّ الرغبةَ في التعلُّم هي التي جاءت بك، فهي سابقةٌ للمجيءِ.
ولما كانَ المفعولُ لأجله هو الباعثَ على الفعلِ كان يجِب أن يكونَ من أفعالِ الباطنِ التي لا تظهر على الجوارحِ كالخوف والمحبة ونحوِها. ومنها الجوعُ، فإنَّه فِعلٌ كامنٌ لا تمثِّله الحواسُّ.
ولكن قد يأتي المفعولُ لأجلِه وظاهرُه أنه من أفعال الحواسِّ ويكون على تقدير مضافٍ محذوفٍ إذا كان معلومًا بالسِّياقِ كقولِك: (جئتُك ضربَ زيدٍ) تريدُ جئتُك ابتغاء ضربِ زيدٍ. وقد أجاز هذا من النحاة أبو عليّ الفارسيّ، وهو صواب لدليلِ القياس في الحذفِ ودليل السماعِ كقوله: ((ولا تمسكوهنَّ ضِرارًا لتعتدوا)) والضِّرار من أفعال الحواسِّ لا الباطنِ، وإنما ذلك على حذفِ مضافٍ مقدَّر بـ(ابتغاء)، فيكون حدّ الكلام (ولا تمسكوهنَّ ابتغاءَ الضِّرار) ويكون (ابتغاء الضِّرار) سابقًا للإمساكِ.
ومنه أيضًا قولُه: ((والذين ينفقون أموالَهم رئاءَ الناسِ))، وذلك أن الرئاء فعلٌ حسيٌّ، فيكون التقدير: (والذين ينفقون أموالهم طلبًا لرئاء الناس).
وتقول على هذا: (ضربت الابن تأديبًا له) أي: ضربتُه طلبًا لتأديبه لأن التأديب من أفعال الحواسِّ وليس هو السببَ الذي حملك على ضربِه، إنما الذي حملك على ذلكَ طلبُه.
وأمَّا إعراب (جوعًا) حالًا فإنه لا يصح أن يُّعرب المصدر حالاً إلا إذا جعلتَ صاحب الحالِ هو المصدر نفسَه على جهة المبالغةِ كما قال تعالى: ((إنه عمَلٌ غيرُ صالحٍ)) وكما قالت العرب: (رجلٌ عدْل وصومٌ وضيفٌ وزورٌ وفِطرٌ...)، فتقول: (جاء زيدٌ فرَحًا) بفتح الراء، إذا أردتَّ أن تبالغَ في فرحِه فتجعله كأنَّه هو الفرحُ نفسُه. فأمَّا إذا لم يكن في المعنى ما يدعو إلى المبالغة فلا يجوز أن يأتيَ المصدرُ حالاً، وذلك أنَّه إنما جاءَ حالاً مجازًا لا حقيقةً، فأما في الحقيقة فهما شيئان متباينان، فالمصدرُ دالٌّ على المعنى وحده، والاسم المشتقّ دال على المعنى وصاحبه، فلم يكن العربُ ليضعوا هذا موضع هذا إلا لضربٍ من العَلاقة بينهما هو ما ذكرتُه لكَ. ولولا ذلكَ لم يجُز.
أمَّا الآياتُ التي استُدلَّ بها على كثرة مجيءِ الحالِ مصدرًا فبعضها مفعولٌ لأجله كقوله: ((يدعون ربهم خوفًا وطمعًا)) وقوله: ((إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا))، وبعضُها مفعولٌ مطلقٌ كقوله: ((ثم إني دعوتهم جهارًا)) لأنََّ الجهار نوعٌ من أنواعِ الدعوةِ. وبعضٌ قليلٌ يجوزُ أن يكون مفعولاً مطلقًا ويجوز أن يكونَ حالاً على جهةِ المبالغةِ إذا اقتضاها المَقامُ كقوله: ((من قبل أن يأتيكم العذاب بغتةً وأنتم لا تشعرون)) . وقلَّ أن يحتملَ المصدرُ الحاليَّة وحدَها دونَ غيرِها، وهذا كالمثال المتقدِّم ذكرُه: (جاء زيدٌ ضحِكًا) إذا أردتَّ أن تبالغَ في بيان ضحكِه. ولا يجوز أن يكون مفعولاً مطلقًا لأن الضحكَ ليس من أنواعِ المجيءِ.
وإذن فليس الأمرُ كما زعموا من أنَّ المصادرَ جاءت أحوالاً بكثرةٍ. والعجيب أنَّهم مع ادِّعائهم كثرةَ ورودها لا يقيسونها، وقياسُها لازمٌ لهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق