الجمعة، 20 أبريل 2018

كلمة في العتاب


نُشر في فسبك في 4/ 8/ 1439هـ.
لم أزل أسمع من الناس مَن يصوّب العتاب ويحسّنه ويزعم أنه من ما يحفظ المودّة ويرُمّها ويستلّ الأضغان ويطيِّب النفوس. وكنت أومن بذلك وأنتحله، حتى إذا تراخت بي الأيام وجرّبت الناس وبلوتهم وسبَرت أخلاقهم وأحوالهم نكِرته وسؤتُ به ظنًّا وعرفت أنه من ما يُحدث البِغضة ويورث الوحشةَ ويُلوي بالمودّة، وذلك أن العتاب إنما يجري بين الأصدقاء. وقد كان ينبغي حين اجتبيتَه صديقًا أن تكون قد رضيت إخاءه وأمِنتَ غيبَه واطمأننت إلى صحة ودّه، فمتى أنكرتَ منه خصلة أو وقفت له على ريبة فولِّدْ له في نفسك من الأعذار الجائزة والعلل المحتمَلة ما لا تحتاج بعده إلى مساءلته وإلى سماع عذرِه لأنّ من كان مثلَه في صدق الإخاء ومتانة الودّ خليق أن يكون معذرًا. ولو أنك عاتبته فربما وجّه عتابك له على سوء الظنّ به وعلى الوَلوع بحفظ زلّاته وتتبّع عثراته، وذلك أن العتاب نوع من المحاسبة ودليل على التقصّي وبرهانٌ على قلّة الإغضاء وتركِ التغافل. وهذه خصلة منفّرة وخلق مكروه ولا سيما بين الأصدقاء. وعسى أن يَهيج هذا العتاب نقمته ويحرّك ضِغنه فلا يزال يتربص بك مثلَها حتى يصيبَه، فإذا أصابه سُرّ به وعدّه ظفرًا له وتبرئة لساحته وجازاك حين إذٍ عتابًا بعتاب وأدّى إليك الكيل صاعًا بصاع. 
على أنّ العتاب من ما يضطرّ الصديق المعاتَب إلى المعاملة بالتكلّف والتصنّع. وفي هذا تركُ التبسّط والتبذّلِ ولزومُ التحفّظ والحذر. ومتى صارت الصداقة إلى مثل هذا فقد صارت إلى الوهن والاضمحلال وآذنت بالصّرم والانفساخ. 
هذا مع أنك إن عجِلتَ إلى صاحبك باللوم والعتاب فأظهر لك منه عذرًا بيّنًا وحجةً بالغة رجع ذلك عليك بالحرج والخجل وصرتَ عنده بمنزلة الطائش العقل، القليل التثبّت، الفرِح بزلات الأصحاب. 
وأمر آخر، وهو أن العتاب في حقيقته نوع من الذِّلّة وعلامة على الاستكانة لما فيه من الإقرار بالحاجة والاعتراف بالألم، ومن طبيعة النفوس أن تستضعف من تؤنس منه ذلك، وربما تاهت عليه واستهانت به. 
فإذا رابك من صاحبك شيء فاجعل ما تعرفه من مودته لك حجيجًا عنه وكفيلًا له بتسويغ فعلِه والاعتذار له إن كان معذرًا، واحتمالِ خطئه إن لم يكن كذلك. واعلم أنك متى أسرعت إلى سوء الظنّ به ونفي العذر عنه فقد دللتَ على شكّك في ولائه وتجويزك لخيانته. ومثلُ هذا حرًى أن لا تتخذه صديقًا وأن لا تستنيم إلى إخائه أو تركن إلى صحبته. 
ولا يغرنك قولهم: (ويبقى الودّ ما بقي العتاب)، فقد يُحتمل هذا المرة والمرتين وبعد الجنايات الكثيرة وبعد أن يضيق عليك واسع العذر حتى لا تجد منفذًا. وفي هذا يقول الشاعر: 
معاتبة الإلفين تحسن مرةً ** فإن أكثرا إدمانها أفسدا الحبّا 
وقد يجوز ذلك إذا كان تركه مفضيًا إلى إسرار الحقد أو حصولِ الهجر فيكون من باب (آخر الدواء الكيّ). وعلى هذا قولُهم: (ظاهر العتاب خير من مكتوم الحقد) وقولهم: (معاتبة الأخ خير من فقده). فأما أن يكون ذلك عادة متبعة وسنة مسلوكة ويجري على الصغيرة والكبيرة والشاذة والفاذة وعلى الوهم والريبة فأمره كما وصفتُ. 
وكما قالوا في مدح العتاب فقد قالوا في ذمِّه أيضًا: 
فدع العتاب، فربّ شرْ ** رٍ هاج أولَه العتابُ 
وقال عبد الله بن جعفر لابنته: (إياكِ والمعاتبة، فإنها تورث البِغضة). وقال الجاحظ: (واعلم أن كثرة العتاب سبب للقطيعة، واطّراحه كله دليل على قلة الاكتراث لأمر الصديق). 
وأحسنَ من قال: 
إن بعض العتاب يدعو إلى البغـ ** ـضِ ويؤذي به الحبيبُ الحبيبا 
وإذا ما القلوب لم تضمر الودْ ** دَ فلن يَعطف العتاب القلوبا 
ومن قال: 
أقللْ عتاب من استربتَ بودّه ** ليست تُنال مودةٌ بعتابِ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق