في ما تلحّن فيه العامة وله وجه
نُشر في المجلة الثقافية في 25/ 3/ 1431هـ.
وردَ إليَّ سُؤالٌ يسألُ فيهِ صاحبُه عن (أيّ) المشدَّدةِ إذا أضيفت إلى مؤنَّثٍ، أتبقَى على تذكيرها فتقول: (أيّ امرأة) أم تلحَقُها تاءُ التأنيثِ فتقول: (أيّة امرأة)؟
والجوابُ عن ذلكَ أنَّ الوجهينِ كلاهما جائزٌ إلا أنَّ التذكيرَ أعلَى وأفصحُ. وأنا مبيِّنٌ الحُجَّة لذلك من السَّماعِ ثمَّ القياسِ.
أمَّا السَّماعُ فقد قالَ تعالَى: ((وما تدري نفسٌ بأيِّ أرضٍ تموتُ)) وقالَ: ((فبأيِّ آلاء ربِّكما تكذِّبان)) وقالَ: ((في أيِّ صورةٍ ما شاءَ ركَّبَك)) ثمَّ قالَ الشاعرُ:
فسائلْ بني دُهمانَ أيُّ سحابةٍ ** علاهم بأُبلَى ودقُها فاستهلَّتِ
فأضِيفت (أيٌّ) إلى (أرضٍ) و(آلاءٍ) و(صورةٍ) و(سحابةٍ) وكلُّهنَّ أسماءٌ مؤنَّثةٌ، ولم تزايلِ التذكيرَ.
وقالَ الشاعرُ:
إذا استنجِدوا لم يسألوا من دعاهمُ ** لأيَّةِ حربٍ أم بأيِّ مكانِ
وقالَ الفرزدقُ:
بأيَّةِ زنْمتيكَ تنالُ قومي ** إذا بحري رأيتَ له عُبابا
وقالَ الكميتُ الأسديُّ:
بأيِّ كتابٍ أم بأيَّةِ سُنَّةٍ ** يُرَى حبُّهم عارًا عليَّ، ويُحسَبُ
فأضِيفت إلى أسماءٍ مؤنَّثةٍ ولحِقتها تاءُ التأنيثِ لذلكَ.
فأمَّا اللغةُ الأولَى، وهي لزومُ التذكيرِ، فلغةٌ لا يرتابُ في ثبوتِها. وفي ما ذكرتُ من شواهدِ ورودها في القرآنِ ما يغنِي. وأمَّا اللغة الثانية، وهي تأنيث (أيّ) إذا أريدَ بها مؤنَّثٌ، فقد أنكرَها بعضُ المتأخِّرينَ لقصورٍ في الاطِّلاعِ. وهي لغةٌ صحيحةٌ ذكرتُ بعضَ ما ينصرُها من الشواهدِ. وقد حكَاها سيبويهِ عن الخليلِ في «كتابه».
وتوجيهُ ذلكَ في القِياسِ أن يقالَ: إنَّ (أيًّا) اسمٌ يصدُقُ على كلِّ شيءٍ من الموجوداتِ عاقلٍ أو غيرِ عاقلٍ ذكرٍ أو أنثى، تقول: (أيَّ رجلٍ رأيتَ؟) و(أيَّ الرجالِ رأيتَ) و(أيَّ امرأةٍ رأيتَ؟) و(أيَّ النساءِ رأيتَ؟) و(أيَّ كتابٍ رأيتَ؟). فلمَّا كان كذلك ذكَّروا لفظَه في جميعِ أحوالِه إذْ كانَ اسمًا مشترَكًا يقعُ على المذكَّر كما يقعُ على المؤنَّثِ، ولم يجعلوه مؤنَّثًا لأنَّ التذكيرَ هو الأصلُ كما ألزَموا (مَن) صورةً واحدةً معَ أنَّه اسمٌ يقعُ على المؤنَّثِ، ولم يؤنِّثوه.
فإن قلتَ: فما لهم جعلُوا لأسماء الإشارةِ وبعضِ الموصولاتِ كـ(الذي) ألفاظًا خاصَّةً بالمؤنثِ ولم يفعلُوا مثلَ ذلكَ في (مَن) و(أيٍّ)؟
قلتُ: أمَّا أسماءُ الإشارةِ فإنهم أرادوا أن يختصُّوا كلَّ نوعٍ بلفظٍ له ينفرِد به عن غيرِه فجعلُوا للمؤنثِ لفظًا كما جعلُوا للمذكَّر لفظًا. ومثلَ ذلكَ صنعُوا في (الذي) الموصولة.
وأمَّا (مَن) فإنَّهم أرادوا أن يخالفُوا بها عن سَبيلِ (الذي) فجعلُوها اسمًا عامًّا يشمَل المذكَّر والمؤنَّثَ. وكانَ لهم في وضع لفظٍ مؤنَّثٍ لـ(الذي) معدِلٌ عن وضعِ لفظٍ مؤنثٍ لـ(مَن).
وأمَّا (أيّ) فإنَّهم جعلُوها اسمًا مشترَكًا كما فعلُوا في (مَن) فألزَموها التذكيرَ وإن كانَت واقعةً على مؤنَّثٍ. وقومٌ من العربِ يُلحِقونها التاءَ إذا أضيفت إلى مؤنَّثٍ فيقولون: (أيةَ امرأةٍ رأيتَ؟) أو أريدَ بها مؤنَّثٌ كما قالَ زهيرٌ:
بانَ الخليطُ ولم يأوُوا لمن تركوا ** وزوَّدوك اشتياقًا أيَّةً سلكوا
أي أيةَ طريقٍ سلكوا.
وذلكَ أنَّهم وجدُوا هذا اللفظَ مشترَكًا في أصلِ وضعِه فلم يكن لهم أن يحدِثُوا للمؤنَّثِ لفظًا خاصًّا به فألحَقوه التاءَ كما يلحِقونها بعضَ الأسماء الجامدةِ إذا أرادوا تأنيثَها نحو قولِهم: (حمار وحمارة) و(رجل ورجلة) وإن كانَ الأصلُ في تأنيثِ الأسماء الجامدة أن يكونَ بلفظٍ آخرَ مباينٍ للفظِ المذكَّر نحو (حمار وأتان) و(رجل وامرأة). وجرَّأهم على ذلكَ بُعدُ لفظِ (أيّ) عن شبهِ الحروفِ وجَريانُه على الغالبِ في الأسماءِ إذ كانَ على ثلاثةِ أحرفٍ فقالوا: (أيةَ امرأةٍ رأيتَ؟) كما أنَّ بعضهم يؤنِّثُ (كلّ) بالتاء إذا أريدَ بها مؤنَّثٌ فيقول: (كلُّ النساءِ وكلَّتُهنَّ) من حيثُ كانت على ثلاثةِ أحرفٍ. ولم يفعلوا هذا في (مَن) لقوَّة شبهِها بالحروفِ لأنَّها ثنائيةُ الوضعِ والحروفُ لا يدخلُها التأنيثُ إلا شذوذًا. فكذلكَ ما أشبهَها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق