الأربعاء، 14 يونيو 2017

تعقيبات على نقد السيد صقر لتحقيق أحمد شاكر لكتاب "الشعر والشعراء" لابن قتيبة

في رواية الشعر والأدب
نُشر أصله في المجلة الثقافية في 9/ 7/ 1430هـ، و16/ 7/ 1430هـ. ونُشر ملحقه في بعض المنتديات.
كنتُ قرأتُ المقالين اللذين صَدَّر بهما الشيخُ أحمدُ شاكر كتاب "الشعر والشعراءِ" لابن قتيبةَ . وهما مقالانِ كتبَهما السيد صقر ينتقدُ بهما تحقيقَه . فرأيتُه أنكرَ بعضَ الرِّواياتِ الصحيحةِ الثابتة، فأحببت أن أبين ما عرفتُه منها في هذه المقالة دالًّا على مواضعها من كتب العلماء.
1- قال السيد صقر (1 / 10):
(وقال الآخر:
أرأيت إن بكرت بليلٍ هامتي ** وخرجت منها باليًا أثوابي
...
وهو خطأ، والصواب:
... ** وخرجت منها عاريًا أثوابي
... لأن الإنسان لا يخرج من الدنيا باليَ الأثواب، بل يخرج منها عاريًا).
قلتُ :
هذا ليس خطئًا كما ذكرَ، فقد رواها كذلك أبو عليّ القالي (ت356) في "أماليه 2 / 279" . ويمكنُ أن يخرَّج على وجهينِ ذكرَهما أبو عبيد البكريُّ (ت487) في "اللآلي 2 / 922":
أحدُهما: أن الأكفانَ لا تكون إلا من ما بلِيَ عادةً.
الآخر: أن يكون هذا مجازًا مرسَلاً عَلاقتُه المستقبليَّةُ، أرادَ أنَّ مصيرَها للبِلى كما قالَ تعالى: ((إني أراني أعصر خمرًا)) وكما يقال: قتلتُ القتيلَ. و يشهدُ لهذه الروايةِ قولُ النابغة الجعدي:
أرأيت إن صرخت بليلٍ هامتي ** وخرجت منها باليًا أوصالي
وهو شاهدٌ للسماعِ لأنه اهتدمَ هذا البيتَ لم يغيِّر فيه إلا الكلمة الأخيرة، وشاهدٌ للقياسِ لأن المرء لا تبلَى أوصالُه حالَ خروجه من الدنيا، وإنما تبلَى بعد ذلك.
2- قالَ السيد صقر (1 / 13):
(كقول العباس بن مرداس السلمي:
وما كان بدرٌ ولا حابسٌ ** يفوقان مرداسَ في مجمعِ
وكذلك وردَ مرةً أخرَى ...، وهو خطأ. والصواب: (وما كان حصنٌ ولا حابسٌ) [ثم أخذ يعدِّد المصادر التي فيها هذه الرواية]).
قلت :
ما خطَّأه ليس بخطأ، فقد رواهُ كذلكَ ابنُ سعدٍ (ت230) في "طبقاتِه 4 / 272" ومسلمٌ (ت261) في" صحيحه، رقم 1060" . وهو في "العقد الفريد 5 / 357" لابن عبد ربه (ت328) عن أبي حاتمٍ السجستانيّ.
وله وجهٌ من النظرِ، فإن عيينةَ هو ابن حصن بن حذيفة بن بدرٍ، فـ(بدرٌ) جدُّه وإن كنت أرى أن الأرجحَ روايةُ (حصن) حتى يقابِلَ (حابسًا) و(مرداسًا) لأنهما أبوان وليسا جدَّينِ، ولكن لا يجوز أن تُقدَّم روايةُ نسخةٍ على أخرَى إذا كانت الأولَى أوثقَ عند المحقِّق وكانتِ الرِّوايةُ التي فيها محتملةً مقبولةً. وللمحقِّق أن يعلِّق في الحاشية بما يشاءُ.
3- قال السيد صقر (1 / 14):
(وقدَّمتِ الأديمَ لراهشَيهِ ** وألفى قولها كذبًا ومينا
هكذا جاء في الطبعتين: (وقدَّمتِ الأديمَ). وهو خطأ، والصواب: (وقدَّدتِ) ).
قلتُ :
هذه الرّواية ليست خطئًا، فهي رواية أبي زكرياءَ الفراء (ت207) في "معاني القرآن 1 / 37" وأبي عبيدةَ معمرِ بنِ المثنَّى (ت 210) في "الديباج 112" وابنِ سلامٍ الجمَحيِّ (ت231) في "طبقات فحول الشعراء 1 / 76". ونقلَ كلامَه أبو عبيد الله المرزبانيُّ (ت384) في "الموشح 155" بهذه الرواية. وهي أيضًا روايةُ أبي بكرٍ الأنباريِّ (ت328) في "الزاهر في معاني كلام الناسِ 1 / 157" وقدامةَ بنِ جعفر (ت337) في "نقد الشعر 182" والجوهريِّ (ت393) في "الصحاح 7 / 60" والشريفِ المرتضى (ت436) في "أماليه 2 / 258"  والزمخشريِّ (ت538) في "المستقصى في أمثال العرب 1 / 243" وغيرِهم.
وهذا البيتُ لعَديِّ بن زيد العِباديِّ يصِف فيه خبرَ جَذيمةَ الأبرشِ مع الزبَّاء عندما دعته إليها وأوهمتْه أنها ستتزوجُه وتَدينُ له، فلما جاءَ غدرت به وقدَّمت الأديمَ (وهو الجلد المدبوغ) فجعلته تحت ذراعيه حتى لا يسيلَ الدمُ ثم قطعت راهشَيْهِ (وهما عرقان في باطن الذراعِ تراهما ظاهرينِ) حتى ماتَ.
بل إنَّ رِواية (قدَّمت) أبلغُ من (قدَّدت)، فهي تصوِّر جَذيمةَ وهو قادِمٌ إلى الزبَّاءِ يطمعُ أن تقدِّم له نفسَها ومُلكَها كما وعدته، فإذا هي تقدِّمُ له الأديمَ لتقتلَه . وهذه مفارقةٌ بلاغيَّةٌ بديعيَّةٌ تعملُ على إبراز مفاصلِ الحدثِ ومواضعِ العجَب منه بأجلَى صورةٍ، ألا ترى أن ذلك أدلّ على مقدار الخيبة والخُسْر اللذينِ مُنِِي بهما. ونظيرُ هذا اللون من البلاغة قوله تعالى: ((إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلاً)) وقوله: ((هذا نزلهم يوم الدين)).
4- قال السيد صقر (1 / 27):
(ودكين هو القائل:
...
وإن هو لم يُضْرِعْ عن اللؤمِ نفسَه ** فليس إلى حسن الثناء سبيل
قال الشيخ في شرحه: (أصلُ الضَّرَعِ – بفتح الراء – الذل والتخشع، يقال: ضرع له وإليه: استكان وخشعَ، فالمراد هنا: إن لم يمنع نفسه عن اللؤم ويغلبها) قلتُ [القائل السيد صقر]: والصواب: إن هو لم يَضرَح عن اللؤم نفسَه. جاء في اللسان ..." الضرح: التنحية. وقد ضرحَه: أي نحَّاه ودفعَه").
قلتُ :
بل الصواب ما ذكرَه الشيخُ شاكر. وأما ما ذكرَه السيد صقر فمردود من ثلاثة أوجهٍ:
الأول: أنَّ لفظَ "الضَّرْح" لا يصلح في هذا الموضعِ لأن معناه عندَ التحقيقِ ليس التنحية كما نقلَ إذ التنحية إبعادُ الأشياء الكبيرة الجِرم برفقٍ، وإنما الضَّرْح إبعادُ الأشياء الصغيرة الجِرم بعنفٍ، فاللفظان يشتركان كما ترى في جنسِ الإبعاد، ولكنهما يفترقانِ في ما وراءَه،  يشهدُ لهذا قولُ الشاعرِ:
فلما أن أتين على أُضاخٍ ** ضرحْنَ حصاه أشتاتًا عِزِينا
وقول الفرزدق:
كأنَّ نَجاء أرجلِهنَّ لمَّا ** ضرحْنَ المروَ يقتدحُ الشَّرارا
وقولُ صاحب "العينِ" – وقد أبانَ -: (والضَّرْح: الرمي بالشيءِ)، فهو إذن بمعنى الرمي أو الطرحِ وليس بمعنى التنحية والدفعِ. والذي في "اللسان" منقولٌ عن "الصحاح" وقد تجوّز صاحب "الصحاح" في تفسير هذا المعنى. ومتى ثبتَ هذا أوجب لنا العلمَ بأنه لا يقال: (ضرح الإنسان نفسَه عن اللؤم) كما لا يقال: (رمَى الإنسان نفسَه عن اللؤم) لا من جهة الحقيقة ولا من جهة المجاز.
الثاني: أنَّا لو صححنا رواية (يضرَح) كما رأى السيد صقر لكان المعنى: إذا المرء لم يجانب اللؤمَ لم يستطع أن ينال ثناء الناس عليه. وهذا معنًى قريبٌ ساذج. وإنما أرادَ الشاعر أنه إذا لم يهِنِ المرء نفسَه ويذلَّها ويصبِّرها عن مقارفة أسباب اللؤمِ لم يجِد له مثنيًا. وهذا معنًى معروفٌ عندَ العربِ، منه قولُ الخنساء:
نهينُ النفوسَ وهونُ النفو ** سِ يومَ الكريهة أبقى لها
وقولُ الآخرِ:
أهينُ لهم نفسي لأكرمَها بهم ** ولن تكرم النفس التي لا تهينها
وقد أخذ دكينٌ بيتَه من قول عبد الملك الحارثي:
وإن هو لم يحمل على النفس ضيمَها ** فليس إلى حسن الثناء سبيلُ
وضيمُ النفس وإهانتها متقاربان. وفي هذا مرجِّح لرواية (يُضرِع).
الثالث: أنَّ أبا بكر الدينوريّ (ت333) روى هذا البيتَ في "المجالسة وجواهر العلم 4 / 316" برواية (يُضرِع) . ويظاهرُه أيضًا ما رواه ابن قتيبة نفسُه في "عيون الأخبار 3 / 599"، فإنها فيه (يصرع)، فلعله وقعَ في الحرفِ تصحيفٌ من النُسَّاخِ. وإنما كان ظهيرًا للرواية التي صححناها لأنه دال على أن الحرف الأخير لا يخرج عن أن يكون عينًا أو غينًا ولا سيَّما أن التقارب الذي بينَهما أدنى من التقارب بينهما وبين الحاء، على أنه لم يروِ هذا اللفظَ بالحاءِ أحدٌ من العلماء في ما أعلمُ، وإنما هو اجتهاد من السيد صقر رحمه الله.
وتفسير الشيخ شاكر لـ(أضرع) ليس مستقيمًا كلَّ الاستقامة، فإنه ذكر أن (الضَّرع) الاستكانة والخشوع ثم عدل عن هذا في التفسير فقال: (فالمراد هنا إن لم يمنع نفسَه عن اللؤم ويغلبها). والصواب: إن لم يُذِلَّ نفسَه عن اللؤم، أي مباعدًا لها عن اللؤم، كما تقدَّم. ويصدِّق ذلك قول العرب في المثل: (الحمَّى أضرعتني لك) أي  أذلّتني لك.
5- قال السيِّد صقر (1 / 21):
(من شعر هشام أخي ذي الرمة:
حتى إذا أمعروا صفقَي مباءتهم ** وجرَّد الخُطْبُ أثباجَ الجراثيمِ
...
شرحَ الأستاذ [يعني شاكرًا] البيت الأول بقوله: (أمعروا: أكلوا. الصفقتان: الناحيتان. المباءة: منزل القوم حيث يتبوءون. الخُطْب: جمع أخطَب، وهو الحمار تعلوه خضرة). [قال صقر] وهو خطأ لأن الشاعر لم يرِد بالخُطْب الحميرَ، وإنما أراد النوق التي كانت ترعَى...).
قلتُ:
تكلف الأستاذان تفسير معنى (الخُطب) فلم يصنعا شيئًا لأن هذه الكلمة مصحَّفة عن (الحَطْب) بالحاء المهملة، مصدَر (حطَبَ)، فصواب البيت:
* وجرَّد الحَطْبُ أثباجَ الجراثيم *
والأثباج هنا: الأعالي.
والجراثيم: جمع جرثومة، وهي الترابُ يكون أصلاً للشجرة ويكون مرتفعًا عن ما حولَه.
يريد أنهم لما أكلوا ما قِبَلَهم من النبات ورعَوا ما حولَهم من المرعَى وجرَّد الاحتطابُ أصولَ الشجر من الشجر على حينِ إدبار من الربيع وإقبال من الصيفِ ردُّوا الجمالَ فانصرفوا إلى أعدادِهم ومياههم التي كانوا عليها وقد سمِنت جمالُهم كما قال في بيت بعده:
عركركٍ مهجر الضؤبان أوَّمَه ** روضُ القِذاف ربيعًا أيَّ تأويمِ
و(أوَّمَه): سمَّنه.
وكما قال الشماخ:
تربعَ أكنافَ القَنانِ فصارةٍ ** فماوانَ حتى قاظَ وهو زهومُ
أي: سمين.
ويصحِّح بيتَ هشام المتقدِّمَ قولُ ذي الرمَّة أخيه:
به عرصاتُ الحيِّ قوَّبن متنَه ** وجرَّد أثباجَ الجراثيم حاطبُهْ
وهو ثابت على الصواب في "العباب" و"التكملة" و"تاج العروس" ومعدولٌ عنه في "التهذيب" و"اللسان".
وفي هذه القصيدة أخطاءٌ كثيرةٌ من التصحيفِ والتحريفِ ورداءة الشرحِ تركتُ التعرُّض لها لأنها ليست داخلة في حدِّ ما ذكرت.
فهذه بعضُ التعقيبات على بعض نقَداتِ السيد صقر كرهت أن أطويَها، يدفعُني إلى ذلك ما قاله السيد صقر: (وإني على نهجي الذي انتهجتُ منذ أول كتابٍ نشرتُ أدعو النُقَّادَ إلى إظهاري على أوهامي فيها وتبيين ما دقَّ عن فهمي من معانيها أو ندَّ عن نظري من مبانيها وفاءًا بحقِّ العلم عليهم وأداءًا لحقّ النصيحة فيه).
* مُلحق في تفصيل بعض هذه التعقيبات:
1- هل رواية "باليًا أثوابي" خطأ؟
قال السيد صقر (1 / 10):
(وقال الآخر:
أرأيت إن بكرت بليلٍ هامتي ** وخرجت منها باليًا أثوابي
...
وهو خطأ، والصواب:
... ** وخرجت منها عاريًا أثوابي
... لأن الإنسان لا يخرج من الدنيا باليَ الأثواب، بل يخرج منها عاريًا).
فقلت في أصل الموضوع:
هذا ليس خطئًا كما ذكرَ، فقد رواها كذلك أبو عليّ القالي (ت356) في "أماليه 2 / 279" . ويمكنُ أن يخرَّج على وجهينِ ذكرَهما أبو عبيد البكريُّ (ت487) في "اللآلي 2 / 922":
أحدُهما: أن الأكفانَ لا تكون إلا من ما بلِيَ عادةً.
الآخر: أن يكون هذا مجازًا مرسَلاً عَلاقتُه المستقبليَّةُ، أرادَ أنَّ مصيرَها للبِلى كما قالَ تعالى: ((إني أراني أعصر خمرًا)) وكما يقال: قتلتُ القتيلَ. و يشهدُ لهذه الروايةِ قولُ النابغة الجعدي:
أرأيت إن صرخت بليلٍ هامتي ** وخرجت منها باليًا أوصالي
وهو شاهدٌ للسماعِ لأنه اهتدمَ هذا البيتَ لم يغيِّر فيه إلا الكلمة الأخيرة، وشاهدٌ للقياسِ لأن المرء لا تبلَى أوصالُه حالَ خروجه من الدنيا، وإنما تبلَى بعد ذلك.
ولمزيد من البيان أقول:
ليس يجوز أن تُخطّأ رواية ما لافتقارها إلى بعض التأويل أو لاشتمالها على قدر من الغموض. ولو فعلنا ذلك لكان لنا أن نبطلَ كثيرًا من رواياتِ الشعرِ. ولو جازَ هذا وأشباهُه لكانَ لي أن أقول مثلًا:
إن الصوابَ هو رواية (باليًا أثوابي) . وأما رواية (عاريًا أثوابي) فمغيَّرة منها. ودليل ذلك أربعة أمور:
الأول: أنَّها روايةُ أبي عليّ القالي خاتمةِ الحفَّاظ، بل روايةُ شيخِه أبي بكرٍ الأنباريِّ الحافظِ الكبير في "الزاهر 1 / 461". هذا غيرُ ورودِها في "الشعر والشعراء".
الثاني: أنَّ الرّوايةَ الأخرَى روايةَ (عاريًا أثوابي) أولُ مَن رواها – في ما أعلمُ – أبو تمَّام في "الوحشيات 256"، ومعلومٌ عن أبي تمامٍ تغييرُه للرِّواية.
الثالث: أنَّ الأصلَ في الرِّواية وفي كثير من الأشياء أن يُحمَل الغريب منها على المعروف والمغمور على المشهور والخفيُّ على الواضح. و(باليًا أثوابي) أدنَى أن تكونَ هي الأصلَ لخروجِها عن الظاهر ثمَّ غُيِّرت إلى (عاريًا أثوابي) وليس العكس.
الرابع: أنَّ هذا البيتَ إنما هو اهتِدامٌ لبيت النابغة الجعديّ:
أرأيت إن صرخت بليلٍ هامتي ** وخرجت منها باليًا أوصالي
حيث نسخَه ولم يغيِّر فيه إلا الكلمةَ الأخيرةَ. وليس لبيت النابغة إلا هذه الرّوايةُ. وهبْنا غيَّرنا (باليًا أثوابي) فماذا نصنع بهذا البيت؟ أوليست أوصالُ المرء لا تبلَى إلا بعد مدَّة من دفنِه؟
فهل نبطلُه ونخرجه من عِداد الشِّعر؟
وبعدُ،
فهذا كلامٌ أردتّ أن أبيِّن به أنا لو أسلمنا تراثَنا إلى أذواق المحقِّقين واستحساناتِهم لوجدنا من يخطِّئ ما صحَّحَه السيد صقرٌ ويصحِّح ما خطَّأه. وبذلك يصبحُ التراثُ نهبًا للأيدي لأنّ العقولَ تختلِفُ والأذواقَ تتبايَنُ، وكل إنسان بعقلِه واثقٌ وبذوقِه راضٍ معجَبٌ.
2- تحقيق مادة (الضرح).
ذهب ابن فارس إلى أن هذه المادة أصلان . والذي يظهر لي أنها ثلاثة أصولٍ هذا بيانُها:
الأصل الأول:
إبعاد الأشياء الصغيرة الجِرم بعُنف (أي بشيء من الجهد). وإن شئتَ تعريفَها بمرادفها قلتَ: (هي بمعنى الرمي أو الطرح).
ومن صور استعمالها حقيقةً:
1- ضرْحُ الحصَى كما قالَ الشاعر:
فلما أن أتين على أُضاخٍ ** ضَرَحْنَ حصاه أشتاتًا عِزِينا
2- ضرْحُ السَّهم كما قالوا: (قوسٌ ضَروح) إذا كانت شديدةَ الرمي للسهم.
3- ضرْحُ القذَى كما قال أبو تمام:
شوقٌ ضرحتُ قذاتَه عن مشربي ** وهوًى أطرتُ لِحاءَه عن عُودي
ومن صور استعمالها مجازًا:
1- ضرْحُ الرجُلِ كما قالوا: (اضطرحوا فلانًا) إذا رمَوه في ناحية، وتكون كأنك شبهتَه بالأشياء التي ترمَى كالحصَى ونحوها. وهذه استعارة مكنيَّة. وفيها من البلاغة وحسن التصوير ما لا يخفَى. وفي "اللسان" ط بولاق وصادر في هذا الموضع تصحيفٌ، قال: (وجائز أن يكون اطَّرحوه افتعالاً من الطرح)، والصواب (الضرح) كما في "التهذيب" وكما يدل عليه تمامُ الكلام.
ومنه ضرحُ النيَّة لصاحبِها كما قالوا: (نيَّة ضرَح).
2- ضرْحُ الشَّهادة كما قالوا: (ضرحت شهادة فلان) إذا رميتَها  ولم تعتدَّ بها. وهي استعارةٌ مكنيَّة أيضًا.
3- ضرْحُ العارِ ونحوِه من المعاني غيرِ الحسيَّة كما قال ابن الرومي:
سلاحي لِسانٌ لا يُفَلّ وجُنَّتي ** أديمٌ صحيحٌ يضرَح العارَ أملسُ
وهي استعارة مكنيَّة أيضًا.
4- ضَرْحُ الكَلام، فقد قالوا: ضارحَه بمعنى سابَّه وشاتمَه، على جهة الاستعارة التصريحية التبعية، كأنَّه راماه بالحجارة.
5- الرَّمحُ بالرِّجْل كما قالوا: (فرس ضروحٌ). وذلك أنَّ من لوازمه غالبًا الضرحَ. ومنه قول الأفوه الأوديّ:
والخيرُ لا يأتي ابتغاءٌ به ** والشَرُّ لا يُفنيه ضَرْحُ الشّموسْ
وهو مجاز مرسَلٌ عَلاقته اللازميَّة.
تصاريفُه (المسموعُ منها من مَّا لا يوجِبه القياس إيجابًا):
يقال: ضرَحه يضرَحه، من باب (فتح) ضَرْحًا (وهو مصدرٌ قياسيّ) وضِراحًا (وهو خاصٌّ بالرَّمح بالرجلِ. وهو قياسيّ في ذلك لدَِلالته على الامتناع كالإِباء والنِّفار والفِرار والشِّماس، ذكرَه سيبويه).
فانضرحَ (وذلكَ في المعاني المجازيَّة خاصَّةً).
واضطَرحه (ويكثر استعمالُه في رمي الرجُلِ لثِقَلِه، فزادوا في المبنَى لزيادة المعنَى).
وضارحَه مضارحة (وهو مصدر قياسي) وضِراحًا (والأصح أنه سَماعيّ).
وفي "اللسان" ط صادر تصحيفٌ أدَّى إلى زيادة تعدية هذا الفعل بالهمزة، وذلك قوله: (وأضرحه عنك أي أبعده)، والصواب - نصًّا لا تفسيرًا -: (واضرحْه عنك أي أبعِدْه) كما في "الصحاح" وكما يَدلّ عليه سائرُ المادَّة.
وصيغة المبالغة من (ضرَحَ) ضَروحٌ (وهي قياسية)
وضرَحٌ (وهي على غير قياس متلئبّ، ولا تدخل التاء على مؤنثها)
وقالوا: (رجلٌ ضَريحٌ). وهو فعيلٌ بمعنى مفعول كما قالوا: جريح بمعنى مجروح وقتيل بمعنى مقتول. والمراد أنَّه كالمرميِّ بعيدًا.
وقالوا: (رجلٌ ضَرَح) بمعنى (فاسد). و(ضرَح) هنا نائبٌ هنا عنِ المفعول كحسَب وعدَد وقنَص ووَلَد إلا أنَّه لا يَزال باقيًا على وصفيَّته. وتأويلُه : المرميّ لفساده.
التفريعات الاشتقاقية على الأصل الأول :
خصَّصتِ العربُ سببًا من أسبابِ الضَّرْح بمعنى الرَّمي من طريق التغيير بالزيادة فقالوا: (أضرحَه) بمعنى أفسدَه، وذلك أنَّ الفسادَ سببٌ من أسباب الرَّمي إذْ كان معنًى من المعاني اللازمة التي لا تُجاوِز صاحبَها. فلمَّا بقِيَ على أصلِه ثلاثيًّا مجرَّدًا احتاجوا إلى بناء آخرَ يدلُّون به على إيقاعِ الفسادِ فأخذوا بالقياسِ الغالبِ، وهو التعديةُ بالهمزةِ، فزادوا (أفعلَ) لهذا الغرضِ.
على أنَّ في ثبوت هذا المعنَى نظرًا لأنَّ مرجعه إلى المؤرِّج السَّدوسيِّ، وقد قال الأزهريّ في "التهذيب": (وكلّ ما جاء عن المؤرّج فهو من مَّا لا يعرَّج عليه إلاّ أن تصحّ الرواية عنه) . ولا ندري مَن رَوى هذا عنه.
تصاريفُه:
يقال: أضرحتُ فلانًا والسوقَ ونحوَها فضرحَ يضرَح (من باب فتح) ضُروحًا (وهو مصدر قياسي) وضَرْحًا (وهو سَماعي عند أكثرهم في اللازم).
الأصل الثاني:
الشَقُّ. وغلَبَ على شَقِّ القبر.
تصاريفُه:
يقال: ضرحَه يضرَحه (من باب فتح) ضَرْحًا فانضرح.
وقولهم: (ضريح) للقبرِ فعيلٌ بمعنَى مفعول. وهو اسمٌ غيرُ وصفٍ. وقد زادوا التاء في آخِره توكيدًا للنَّقلِ فقالوا: (ضريحة) كما قالوا: (طبيعة) و(خليقة).
الأصل الثالث:
اللونُ الأبيضُ، يقال: نسرٌ مَضْرحيٌّ وصقرٌ مَضْرحيٌّ كما قال طرفة:
كأنَّ جناحَي مَضرحيٍّ تكنَّفا ** حِفافَيه شُكّا في العسيبِ بمِسردِ
فحذفَ الموصوفَ لدلالة الكلام عليه.
ورجلٌ مضرحيٌّ كما قال جرير:
بأبيضَ من أميةَ  مَضْرَحيٍّ ** كأنّ جبينَه سيفٌ صَنيعُ
فأتَى بـ(مَضْرحي) بعد (أبيضَ) توكيدًا كما تقول: (أبيض يقََق). والبياضُ من ما تمتدح به العربُ كما قال زهيرٌ:
أغرّ أبيضُ فيَّاضٌ يفكِّك عن ** أيدي العناةِ  وعن أعناقِها الرِّبَقا
وكما قال أبو طالب:
وأبيض يُستسقَى الغَمامُ بوجهِه ** ثِمال اليتامى عصمة للأراملِ
إذْ كان رمز الصفاء والنقاء. وهم لا يريدونَ بهذا وصفَه بالبياضِ حقيقةً، وإنما يريدونَ أنه طاهرٌ لم يخالطه دنَسٌ كالشيء الأبيض، فهو استعارة تصريحية تبعية. ومتى وافقَ هذا بياضًا في الممدوح كانَ أبلغَ وأوفقَ.
تصاريفه:
لم يجئ منه إلا (مَضْرَح) و(مَضْرَحِيّ). والياء في آخرِه ليست ياء النسب وإن كانت على صورتِها، فهي كـ(كرسيّ) و(بُخْتي) إلا أنه مشتقٌّ غيرُ جامد.
الأعلام:
ذكروا من الأعلام (الضُّراح) – وهو بيت في السماء -، وقيل: (الضريح)، و من أسماء الرجال (ضَراح ) و(مضرِّح) و(ضارح) و(ضُريح) و(مَضْرحي).
حواشٍ على ما تقدَّم :
1- تعريف الضَّرْح بالدفع غير صالحٍ إذ هو من تعريف الشيء بالمبايِن له، ذلك أنَّ طريقةَ (الدفع) غيرُ طريقة (الضَّرْح)، فالدفعُ – في حقيقته - إزجاء الشيء من غير قبضٍ له، و(الضَّرْح) – والرميُ مثلُه – غالبًا ما يكون عن قبضٍ. وأما قوله تعالى: ((فادفعوا إليهم أموالهم)) فمضمَّن معنَى (أوصلَ).
والمفعول في (الدفع) قد يكون صغيرًا كما تقول: دفعتُ الكأسَ. وقد يكون كبيرًا كما قال الحماسيّ:
دفعناكم بالكَفِّ حتى بطِرتمُ ** وبالرَّاحِ حتى كان دفعُ الأصابعِ
والضَّرْح كما سلفَ لا يكون مفعولُه – في الحقيقة – إلا صغيرًا.
2- تعريف الضَّرْح بالتنحية غيرُ صالحٍ أيضًا. وقد تقدَّم في أصل الحديث بيان ذلك.
3- فسَّر بعضُ اللُّغويِّين الانضراح والضَّرْح بالتباعد والاتِّساع. وهذا تفسيرٌ غيرُ دقيق إذ هو تفسير باللازمِ، وهو أخصُّ من المعرَّف، ذلك أنَّ الانضراح والضَّرْح في أحد معنييه هو الانشقاق – كما بينتُ -، والشيء إذا انشقَّ تباعدَ طرفاه واتَّسَع وسَطُه، ولكنَّه ليس تباعدًا مطلَقًا، كما أنك لا تقول: (انشقَّ الشيء) ولا (شققتُه) تريد (بعُد) و(أبعدتُّه). 
4- المضارحة التي زادَها بعضهم وذكرَ أنها بمعنَى المقابلة لا أعلمُ لها دليلاً من السَّماع، وإنما المضارحة المراماة حقيقةً أو مجازًا، فلا يصِحّ أن تفسَّر بالمقابلة بإطلاق، فلو قيلَ: (المقابلة بالرمي أو السبّ ونحوه) لكانَ مقارِبًا.
5- لا يَدلُّ الضَّرْح بمعناه المجازيِّ على الإبعاد، وإنما معناه الرَّمي. ولذلك لا يكون مفعولُه إلا مكروهًا منبوذًا كالعار والشرّ والخلقِ السيئ أو ما يَجري مَجراه، ولا يقال: ضرحَ الإنسانُ نفسَه.
خلاصة القول :
بما تقدَّم تفصيلُه يتبيَّن أنَّ الضَّرْح بجميع أصوله وتفريعاته لا يأتي بمعنى البُعدِ بإطلاقٍ لا حقيقةً ولا مجازًا. وإذا كان كذلك كانَ ما اقترحه السيد صقر غيرَ صوابٍ. وزدْ على امتناعِ معنى الضَّرْح هنا ما اعتضدتُّ به من ضَعف معنى البيت لو سلَّمنا أن (يَضْرَح) بمعنى يُبعِد، وما احتججتُ به من ثبوتِ الكلمة في "المجالسة وجواهر العِلْم": (يُضرِع)، وفي "عيون الأخبار": (يَصْرَع). ولا مدخلَ لـ(يَضرَح) بينها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق