نُشر في ملتقى أهل اللغة في 3/ 11/ 1432هـ.
ظهَر قبلَ مُدَّةٍ قولٌ مستحدَثٌ لبعضِ المعاصِرين يرَون فيه أنَّ (أشياء) ليست في الأصلِ ممنوعةً من الصرفِ لأنَّها على زنةِ (أفعال). وإنما مُنِعت من الصرف في قولِه تعالَى: ((يا أيها الذين آمنُوا لا تسألوا عن أشياءَ إن تُبدَ لكم تسؤكم)) [المائدة: 101] لعلَّة الاستثقالِ في هذا الموضع من قِبَلِ أنَّ في ذلكَ تَكرارَ حرفينِ علَى الوَلاء، وذلكَ قولُه: (ءٍ إنْ). وهذه صورتُها (إنْ إنْ). وزعموا أن العربَ كانت تصرفُها. واحتجُّوا ببعضِ الأبياتِ من الشعر كقولِ الأعلم حبيب بن عبد الله الهذليّ:
جَزَى اللهُ حبْشيًّا بما قالَ أبؤسًا ** بما رامَ أشياءًا بنا لا نرومُها
وقولِ أبي قيس بن الأسلت:
أَرَبَّ النّاسِ، أشْياءٌ ألمّتْ ** يُلفُّ الصَّعبُ منها بالذَّلُولِ
وقولِ قيس بن الخطيم الأوسي:
ثأرتُ عديًّا والخَطيمَ فلم أضِع ** ولاية أشياءٍ جُعِلتُ إزاءها
وقول بشار بن برد:
أَمّا الحياة فكلُّ النّاسِ يَحفظُها ** وفي المعيشةِ أشياءٌ مناكيرُ
وقد تزعَّمَ هذه المقالةَ محمود البشبيشي، وكتبَ في مجلة الرسالة عام 1367هـ كلامًا يحتجّ به لذلك. وتبِعَه على هذا نفرٌ من الباحثينَ كرمضان عبد التواب، وغيره[1].
وهذا القولُ لا جرمَ قولٌ ساقطٌ ضعيفٌ. وهو منبتٌّ عن مذاهبِ العربِ في كلامِها وتصرُّفاتِها في أحكامها. والردُّ عليه من وجوهٍ سبعةٍ:
الأول: أنَّ منع (أشياء) من الصرف ليس في كلامِ الله تعالَى وحسبُ، وإنما هو كلامُ العربِ جميعًا لا يعرِفونَ غيرَه. وقد نصَّ على هذا بعضُ العلماءِ، كصاحب (العين) الخليلِ بن أحمدَ (ت175هـ) أو غيرِه، قالَ: (والعربُ لا تصرِف أشياء)[2]، وأبي حاتمٍ السجستانيِّ (ت255هـ)، قالَ: (أشياء أفعالٌ مثلُ أنباءٍ. وكان يجب أن تنصرف إلا أنّها سُمعت عن العرب غير مصروفة فاحتال لها النحويون باحتيالات لا تصحّ)[3]. ولو كانَ العربُ أو بعضُهم يصرِفون هذه الكلمةَ لنقلَ النُّحاة ذلكَ عنهم وهم الذين لقوهم وخالطُوهم وسمِعُوا عنهم. ويدلُّك على هذا أيضًا أنَّ القرَّاء مجمِعونَ على منعِ هذه الكلمةِ من الصرفِ في قراءاتِهم المتواترة والشاذة معَ أنَّك لا تكادُ تجدُ لكلمةٍ من القرآنِ وجهًا في العربيَّةِ يجوزُ الحملُ عليه وإنْ كانَ ضعيفًا إلا وجدتَّهم قد قرءوا به. فلولا أنَّ هذه لغةُ العربِ جميعِهم لرأيتَ من يقرأ بصرفِها.
كما وردت في الشِّعر ممنوعةً من الصرفِ، قال أُحيحة بن الجُلاح:
وأُعرِض عن أشياءَ لو شئتُ نلتُها ** حياءًا إذا ما كانَ فيها مقاذِعُ
وقالَ زهير بن أبي سلمى:
قلت لها: يا اربَعي أقل لكِ في ** أشياءَ عندي من علمها خبَرُ
وقال معن بن أوس المُزنيُّ:
وإني على أشياءَ منكَ تَريبني ** قديمًا لذو صفحٍ على ذاك مجمِلُ
وقالَ المقنَّع الكِنديُّ:
يعاتِبني في الدَّين قومي، وإنما ** ديونيَ في أشياءَ تَكسِبهم حمدا
وقال عَمْر بن أحمر الباهليّ:
وأشياءُ من مَّا يعطِف المرءَ ذا النُّهى ** تشكّ على قلبي، فما أستبينها
وقالَ توبة بنُ الحُميِّر:
رماني وليلَى الأخيليَّةَ قومُها ** بأشياءَ لم تُخلق ولم أدرِ ما هيا
وقال عُمَر بن أبي ربيعة:
دعاه إلى هندٍ تصابٍ ونَظرةٌ ** تدُلُّ على أشياءَ فيها متالفُ
وقال مزاحِم العقيليُّ:
بأشياءَ من مَّا يأشِبُ الناس لو رمَوا ** بها البدرَ أضحَى لونُه وهو كاسِفُ
وغيرُها كثيرٌ.
فإن قالُوا: ولكن قد يجوز أن تكونَ هذه الكلمةُ مصروفةً، وإنما منعُوها من الصرفِ في هذه الأبياتِ اضطرارًا.
قلتُ: هذا الاعتراض مدفوعٌ من ثلاثةِ أوجهٍ:
الأول: أنَّهم لو كانوا كما زعمتم لبلغَنا عنهم شواهدُ قاطعةٌ تثبت أنهم كانوا يصرِفونَ هذه الكلمةَ. وقد أعياكم أن تأتوا على ذلك بشاهدٍ صحيحٍ بريءٍ من الطعنِ.
الثاني: أنَّا نحتجُّ بقانونِ البقاءِ على الأصلِ أو استصحابِ الحالِ، فإنَّ مجيء الكلمةِ في هذه الأبياتِ وغيرِها ممنوعةً من الصرف هو الأصلُ. ولا تُقبَل دعوَى الخروجِ عن الأصلِ إلا بدليلٍ.
الثالث: أنَّا لم نجِد العربَ تمنعُ المصروفَ في شعرِها إلا نَزْرًا حتَّى أبَاه البصريُّونَ. والشواهدُ التي احتجَّ بها الكوفيُّون كلُّها أو جلُّها كانَ الممنوعُ فيها من الصرفِ للضرورة أعلامًا. وكأنَّ ذلكَ لاستحبابِهم خِفَّةَ الأعلامِ وسهولتَها. ولذلكَ أجازوا ترخيمَها في النِّداءِ بإطلاقٍ، كما أفردَها الكوفيُّون بترخيم التصغير. فإذا كانَ العربُ لا يكادُونَ يمنعُون العلمَ المصروفَ في الشِّعر معَ ما رأيتَ من استحبابِهم خِفَّة الأعلامِ ومع أنَّ الشِّعرَ موضعُ اضطرارٍ فلأن يتحاشَوا ذلكَ في غيرِ الأعلامِ أولَى وأجدَرُ. وقد رأيتَ ما سقتُه لكَ من الشواهدِ التي جاءَت فيها كلمة (أشياءَ) ممنوعةً من الصرفِ. ومَن عرفَ مذاهبَ العربِ وتحقَّقَ بأساليبِها عَلِمَ أنَّ من المَحالِ أن يكونَ ذلكَ على جهةِ الاضطرارِ لأنَّ هذه الشواهدَ كثيرةٌ متوافِرةٌ. ولو كانَ الأمرُ كما زعَموا لوجدناهم يمنعونَ نحوَ (أشياءَ) من الصرفِ كـ(أفياء) و(أسماء) و(أبناء) وغيرِها. وهذا ما لم يرتكِبُوه. ولا يكادُ المنقِّر المستقصي يَظفَر بشاهدٍ واحدٍ من صحيحِ الشِّعر المحتَجِّ به وقعت فيه هذه الأسماءُ وأمثالُها ممنوعةً من الصرفِ فضلاً عن أن يجِدَ للكلمةِ الواحدةِ منها أكثرَ من شاهدٍ كما في (أشياء).
فأما ما أوردوه من الأبيات التي ادَّعوا أن (أشياء) وردت فيها مصروفةً فلا حجَّة فيها.
أما بيتُ حبيب بن عبد الله فإنَّه لا شيءَ يوجِب قراءَته بصرفِ (أشياء)، إذ يمكن أن يقرأ بمنعها من الصرف، ويكون في البيتِ زِحاف الكفِّ. وهو زِحافٌ جائِزٌ.
وكذلكَ بيت أبي قيس بن الأسلت، إذْ يجوز أن يُقرأ بمنع الكلمة من الصرف، ويكون في البيت زِحاف النقص.
وأما بيت قيس بن الخطيم فمعدولٌ عن الرِّواية الصحيحة. والصواب (ولايةَ أشياخٍ). وكذلك رَواه أبو تمامٍ (ت231هـ) في (حماسته)[4] وابن قتيبة (ت276هـ) في (المعاني الكبير)[5] وغيرُهما.
وأمَّا بيت بشارٍ فلا يُحتجّ به لأنَّه مولَّد. علَى أنَّه يجوز أن يقرأ بالمنع من الصرف على أن يكونَ في التفعيلةِ زحافُ الطيِّ.
الثاني: أنَّ ما علَّلوا به من الاستِثقال غيرُ قائمٍ، إذْ لو صُرِفت هذه الكلمةُ في القرآنِ لم يؤدِّ ذلكَ إلى ثقَلٍ، بل تكون عذبةً في السَّمعِ خفيفةً على اللِّسان. ويصدِّق هذا أنَّه قد جاءَ في القرآن نظيرُه، قالَ تعالَى: ((وما أنزل الرحمن من شيءٍ إنْ أنتم إلا تكذبون)) [يس: 15]، فلو قالَ: (أشياءٍ إنْ)، لكانَ مثلَ شيءٍ إنْ. علَى أنَّ في النونِ غنَّةً تقرِّبُها من حروفِ المدِّ، فهم يستخِفُّونها لذلك كما يستخِفُّون حروفَ المدِّ. ولذلك كثُرت زيادتُها وحذَفوها من نحو (لم يكن) لشبهِها بها وحذفوها أيضًا لالتقاء الساكنينِ في قولِه:
فلستُ بآتيهِ ولا أستطيعُه ** ولاكِ اسقِني إن كانَ ماؤكَ ذا فضلِ
وزادُوها في أوَّل المضارعِ كما زادُوا حروفَ المدِّ فقالوا: (أذهبُ وتذهب ويذهب ونذهب). وتاءُ (تذهب) مبدَلة من الواو.
ولو كانوا يستثقِلون نحو (إِنْ إنْ)، لكانَ أخلقَ بهم أن يستثقِلوا ما هو أجْلَدُ من النونِ. وقد رأيناهم قالُوا في المكسور: (الخِمخِم) و(السِّمْسِم) ونحوَهما، وقالُوا في المفتوحِ: (صَرْصَر) و(دمدمَ) ونحوَهما، وقالُوا في المضمومِ: (فُلْفُل) و(جُلْجُل) ونحوَهما. وهذا كافٍ في إبطالِ العِلَّة التي زعمُوها.
الثالث: أنَّ العربَ لا تكادُ تعبأ بالاستثقالِ إذا كانَ ناشئًا من كلمتينِ. وذلكَ لعروضِه، ألا تراهم لم يوجِبوا إدغامَ المثلينِ إذا كانا في كلمتينِ نحو (ذهبَ بَكرٌ) كما أدغموهما في (هبَّ)، ولم يُبدلوا الواو ياءًا معَ سكونِها في نحو (القاضيْ وَصل) كما أبدلوها في (سيِّد)، ولم يبدلُوا الواوَ ألفًا في نحو (حضرَ وَفد) مع تحركها وانفتاحِ ما قبلَها كما أبدلُوها في (قالَ).
الرابع: أنَّ الاستثقالَ لا يستوجِب في كلامِهم المنعَ من الصرفِ، وإنما تمنعُ الكلمة من الصرف لكونِها فرعًا من وجهينِ كالفعلِ. كذلك قالُوا.
الخامس: أنَّ العرب ربَّما احتملَت العِلَّة التي من شأنها أن توصَلَ بحُكمٍ إذا كانت قليلةَ العُروضِ في كلامِهم، ألا تراهم احتمَلُوا ثِقَل اجتماعِ ياءَين إحداهما مكسورةٌ في (عَيِيَ)، و(حَيِيَ)، ولم يوجِبُوا الإدغامَ لقلَّةِ هذا الضربِ وندورِه.
السادس: أنَّه لا نظيرَ لهذه الآيةِ يشهَدُ باطِّراد هذا الحكم في ما كانَ مثلَها، سواءٌ أكان ذلك في كلامِ الله تعالَى أم في كلامِ العربِ.
السابع: أنَّ الكلمةَ إذا استحقَّت المنع من الصرفِ فإنَّها تُمنَع البتةَ أيًّا كانَ اللفظُ الذي بعدَها.
ومراعاةُ النظائرِ في كلامِهم أمرٌ مُهِمّ لأنَّها هي التي تعرِّفُك العللَ التي يلحظُونها والأحكامَ التي يوقِعونها وتقِفُك على ما يستثقِلونَ وما يستخِفُّون وما يحبُّون وما يكرهونَ. ومتَى قضيتَ في مسألةٍ قضاءًا لا نظيرَ له في كلامِهم كنتَ حامِلاً عليهم ما لا يعرِفونَه وناسبًا إليهم ما ليس من مذهبِهم ولا طريقتِهم. وفي هذا الزَّيغُ والجَورُ.
___________________
[1] انظر في ذلك مجلة الرسالة، العدد 788 و789 و790، وأقوال العلماء في صرف أشياء لأبي أوس الشمسان 17، 20، والتطور اللغوي بين القوانين الصوتية والقياس لرمضان عبد التواب 19.
[2] 6/ 295.
[3] إعراب القرآن للنحاس 2/ 42، 43.
[4] ص 59 برواية الجواليقي تح عبد المنعم صالح.
[5] 2/ 1024 تصحيح المعلمي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق