في ما تُلحَّن فيه العامة وله وجه
نُشر في المجلة الثقافية في 8/ 5/ 1436هـ.
خطَّأ جمهرةٌ من المشتغلين بالتصحيح اللُّغوي الفعلَ (احتار) ومشتقّاتِه، منهم أسعد داغر في "تذكرة الكاتب 62" وصلاح الدين الزّعبلاوي في "معجم أخطاء الكتاب 153" وعباس أبو السُّعود في "أزاهير الفصحى 180" ومحمد العدناني في "معجم الأخطاء الشائعة 75" وإميل يعقوب في "معجم الخطأ والصواب 297" وغيرهم. وكلُّهم ذكرَ أنَّ هذه الكلِمة لم تُسمَع عن العرب قطُّ ولم يشتمِل عليها معجمُ لغةٍ ولا أتَت في كلامٍ فصيحٍ.
وقد أصبتُ لها بحمدِ الله شاهدينِ من كلامِ من يُحتجُّ به، وهما قولُ جميل بُثينةَ:
وأومَت بجفنِ العين واحتارَ دمعُها ** ليقتلني مملوحةُ الدَّلّ مانعُ
رواه أبو عليّ الهجريّ (ت نحو 300هـ) في "التعليقات والنوادر 2/ 576" عن أبي سليمان الهُذليّ وأبي عَمْر الزُّهيريّ.
وهو شاهدٌ صريحٌ لا مريةَ منه.
والآخَر قولُ الطِّرِمّاح الطائيّ في "ديوانه 156" يمدح خالدًا القسريّ:
وأعمَّ مَنفعةً وأعظمَ نائلًا ** لأخٍ أساف وصاحبٍ مُحتارِ
قال المحقق: (في الأصل المخطوط: مختار) بالخاء المعجمة.
قلتُ: و(محتار) بالحاء المهملة أخلَقُ بالشِّعر وأشبَه أن تكون هي لفظَ الشّاعرِ بدلالة وصفه الأخَ بأنه مُسيف، وهو الذي وقع السُّواف، وهو الموتُ، في ماشيتِه فأسلمَه ذلك إلى الفقر، فهو أحوجُ ما يكونُ إلى المنفعةِ العامّة والنائل العظيمِ. وكذلك الصاحبُ المحتارُ الذي غالَه دهرُه وتقاذفته صروفُه وتغشَّتْه الحَيرةُ من ما هو فيه من الفقرِ ومن الهمّ ومن اليأسِ حتّى سدّت عليه فُروج النظَر والفِكر وصارَ لا يدري أيَّ وجهٍ يتيمّمُ ولا في أيِّ فجٍّ ينسربُ، فليس شيءٌ أحبَّ إليه من منفعةٍ من الممدوحٍ تعمُّه ونائلٍ عظيمٌ يتداركُه. أما وصف الصاحب بأنه (مختار) فليس بالجيّد لأن الصاحب لم يكن صاحبًا إلا لأنه مختارٌ على غيرِه ولأنَّه قد يكون في بسطةٍ من الرّزقِ وتنفيسٍ من الدّهرِ بحيثُ لا يحتاجُ إلى معونةِ أحدٍ. هذا مع ما في التشاكلِ بين كلِمة (أخ) و(صاحب)، فينبغي أن يقعَ التشاكل أيضًا بين (أساف) وصفةِ (صاحب). وهو ما يؤدّيه كلمة (محتار) لا (مختار).
ولستُ أقطَع بأنّ الشّاعر لم يقل إلا (محتار) بالمهملة، ولكنّي بيّنت ما هو أدخَلُ في صناعةِ الشِّعر وأشبَه بأسلوبِ الفحولِ وأنَّه ليس بعيدًا أن يكون ما في المخطوطِ مصحَّفًا. والله أعلم.
فإن لا يكن هذا البيت قاطعًا في إثباتِ استعمالِ هذا اللفظِ فلا شكَّ أن بيتَ جميلٍ يَقطعُ بذلك. وما أكثرَ ما في دواوينِ الشِّعر وشروحِها من ألفاظِ اللُّغة وعقائلِ النّوادر التي لم تتضمّنها المعاجمُ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق