الأربعاء، 28 ديسمبر 2016

تقويم التقييم

في ما تلحن فيه العامة
نُشر في ملتقى أهل اللغة في 5/ 10/ 1433هـ وفي المجلة الثقافية في العددين 379، 380.
مِن الألفاظِ الذائعةِ في كلامِ الناسِ اليومَ لفظُ (التقييم)، يريدون بهِ (تحديدَ قيمةِ الشيء). وقد صحَّح هذا اللفظَ بعضُ المحدَثين[1]. وهو قولٌ باطلٌ. فأمَّا السَّماعُ فقد صفِرت أيديهم منه. وأما القياسُ فسيقولون: قد أردنا بذلكَ عِلَّةً حكيمةً وغرضًا مسلوكًا، وذلكَ أنَّا رأيناهم يقولون: (قوَّمَ الشيءَ تقويمًا): إذا أصلحَ عِوجَه، و(قوَّمَ الشيءَ تقويمًا): إذا حدَّدَ قيمتَه، فخشِينا أن يلتبِس هذان المعنَيانِ إذْ كان لفظُهما واحدًا فعمَدنا إلى لفظِ (القِيمة) بمعنى (الثمَن)، وهو المصدر المجرَّد لهذا المعنَى[2]، وأصلُه (القِوْمة)، وقَعتِ الواو ساكنةً بعد كسرٍ، فقُلِبت ياءًا، فاشتقَقنا منه فقلنا: (قيَّمَ تقييمًا) وأبقَينا البدَلَ الواقِعَ في المصدرِ حتى نفرُقَ بين المعنَيينِ. والذي نهجَ لنا هذا السبيلَ أنَّا رأيناهم ربَّما أبقَوا حكمَ البدَلِ في الأسماءِ المفرَّعة عن الاسمِ الذي هو واقِعٌ فيهِ معَ زَوال العِلَّة الموجِبةِ له. ولذلكَ اعتدُّوا هذه الفروعَ طارئةً على الاسمِ وعارِضةً فيه ولم يجعلوها كالمستقلّة بأنفسِها، ألا تراهم جمعُوا (عيدًا) على (أعياد) ولم يقولوا: (أعواد)، ثم استمرُّوا فقالوا: (عيَّد الناسُ): إذا شهِدوا العيدَ، ولم يقولوا: (عَوَّدَ) مع زَوال عِلَّة الإبدال التي في (عِيد). وقالوا: (ديمة) للمطرِ الدائمِ، وأصلُها (دِوْمة) لأنها من دامَ يدُومُ ثم قالوا: (دوَّمتِ السَّماءُ): إذا دامَ مطرُها. و(ديَّمت) على هذا الوجه. فقد رأيتم أن (التقييم) ينزِعُ إلى قياسٍ صحيحٍ. وما قيس على كلامِ العربِ فهو من كلامِهم.
والجواب عن هذا من وجوهٍ عِدَّةٍ:
الأول: أنَّ (التقويمَ) قد جاءَ في كلامِ العربِ مستعمَلاً بهذا المعنَى[3]. وفي الحديثِ: (قالوا: يا رسولَ الله، لو قوَّمتَ لنا، فقال: الله هو المقوِّم)[4] أي: لو حدَّدتَ لنا القِيمةَ. ومن شرطِ صِحَّة القياسِ عدمُ السَّماعِ، إذْ كانَ السَّماعُ هو المهيمِنَ على القياسِ من قِبَلِ أنه حاقُّ كلامِ العربِ المقطوعِ به والمستوثقِ منه، والقياسُ آلةٌ نظَريةٌ مستنبَطةٌ من استقراءِ مذاهبِهم وتتبُّعِ عوائدِهم قائمةٌ على الظنِّ في ما ينبغي أن يجيءَ عليه كلامُهم لو تكلَّموا. وليس يصِحُّ في العقلِ العدولُ عن اليقين إلى الظنِّ وعن الشاهد إلى الغائبِ وعن المعلوم إلى المجهولِ. وما يدريك لعلَّ العربَ لو تكلَّمتْ في ذلك، لخالفَت عن قياسِها لعلَّةٍ من العِلَلِ. ولذلك تقولُ في النسبة إلى (السَّهْل): (سُهليّ) بضم السِّين، ولا تفتحُها، وتقولُ في جمعِ (فارس): (فوارس)، ولا تقولُ: (فُرَّس) ولا (فُرَّاس)، وتقولُ في مصدرِ (طلبَه): (طلَبًا)، ولا تقولُ: (طَلْبًا)، وتقولُ في اسم المكان والزمان من (نبَتَ ينبُت): (منبِت)، ولا تقولُ: (منبَت). تمتنِع من ذلك كلِّه مع أنه القياسُ.
الثانِي: أنَّ العرب لا تكاد تحفِلُ باللبسِ الناشئ عن الاشتراكِ اللفظيِّ ولا تفصِل من أجلِه أحدَ اللفظينِ عن الآخَر بضربٍ من ضروبِ التغييرِ، ألا ترى أنَّ (تفعَّل) المضارعَ المحذوفَ التاء للتخفيف قد يلتبِسُ بـ(تفعَّل) الماضي، نحو (تلهَّى) و(تزكَّى) وأنَّ اسم الفاعل من نحو (اختارَ) قد يلتبس باسم المفعول من الفعل نفسِه لأنك تقول فيهما جميعًا: (مختار)، وأنَّ الضميرَ (هما) يقعُ على المثنى المؤنَّث كما يقعُ على المثنى المذكّر، وأنَّ الاسمَ المنسوبَ إلى ذي التاء قد يلتبِس أحيانًا بعد إسقاطها بالعاري منها، تقولُ في النسبة إلى (قائم): (قائميّ) وفي النسبة إلى (قائمة): (قائميّ) أيضًا. وتصغِّر الثلاثيَّ على اختلافِ حركة فائه وعينِه على (فُعَيْل). وهي بِنيةٌ واحِدةٌ لا يؤمَن معها اللَّبسُ، إذْ لا تدُلّ على حركاتِ الاسم قبلَ تصغيرِه. هذا وألفاظُ المشترَك اللفظيّ وألفاظُ الأضدادِ كلُّها شواهدُ على ذلك، ألا ترَى أنَّ كلمتي (العين) و(الخال) لهما معانٍ كثيرةٌ، وأنَّ (الجونَ) يطلق على الأبيض والأسود، و(الصريمَ) يطلق على الليل والنهار، وشتَّان ما هما. ومع ذلكَ أبقَوا هذه الألفاظ على مكِناتِها ولم يحيلوا عليها بشيءٍ من التصرُّف، كأنَّهم آثَروا احتمالَ وحشة اللبس وظُلمةِ الاستبهام على كُلفةِ الانتقالِ ومئونةِ التغييرِ حينَ رأوا في القرائنِ التي تكنُف الكلِمةَ ما يُذهِب عنهم هذه الوحشةَ ويكشِف لهم تلك الظلمةَ. وهم في ما قلَّ استِعمالُه وضؤُل خطرُه أكثرُ احتمالاً لما شاعَ وانتشَرَ وكثُر تعاورُه. ولذلكَ لم يسيغُوا التباسَ مضارع الثلاثيِّ المعتلّ العين بالواو بالثلاثيِّ المعتلِّ العينِ بالياء فأوجبُوا الفَصْلَ بينهما محميَةً من وقوعِ اللبسِ فجعلُوا المعتلَّ بالواو على (يفعُل) كـ(يقول)، والمعتلَّ بالياء على (يفعِل) كـ(يبيع) لكثرةِ ذلك وعِظَم خطَرِه، إذْ لولا هذا التمييزُ لتداخلَت أصولُ الكلِم وعسُر التفريقُ بينها. كما أنهم في ما اشتدَّ إغماضُه وخُشِيت جَهالةُ مدلولِه أقلّ احتمالاً منهم لما أعرضَت صَفحتُه وأسفَرَ وجهُه وسهُلَ الاهتداءُ إلى غرضِه. ولذلكَ أبَوا حذفَ الياءِ من (فَعيلة) المعتلِّ العينِ عند النسبةِ إليه كما حذفُوها من الصحيح، نحو (حَنَفيّ) فقالوا في النسبة إلى (طَويلة): (طَوِيليّ). وذلكَ أنهم لو حذفُوها فقالوا: (طَوَليّ) لألزمَهم هذا أن يبدِلوا الواو ألفًا لتحرّكها وانفتاحِ ما قبلها فيقولوا: (طاليّ). وهذا غايةٌ في الإلباسِ لما يتعاقبُ على الكلِمة من التغييرِ المعفِّي على الأصلِ. ولم يُكرثهم في سبيلِ ذلك أن يخرجوا عن القياسِ المستمرِّ ولا أن يختصُّوا هذا الضربَ بما يفارقُ به نظائرَه وأترابَه. علَى أنَّهم في ذلك كلِّه لم يستحدِثوا حكمًا أنُفًا ولم يرتجلوا قياسًا جديدًا، فأمَّا في مضارعِ الثلاثيّ المعتلّ العينِ فقد كانت تفرِقتهم بين الواوي واليائيّ إبَّان الوضعِ، وليس بعدَه. وأمّا في (فَعيلة) المعتلّ العينِ فإنهم إنما راجعُوا أصلاً مهجورًا، وهو النسبة إلى الاسمِ كما هو من غيرِ حذفٍ.
وقد رأيتَ في هذا البابِ سعةَ احتيالِهم ووفورَ حكمتِهم، إذْ لم يجعلُوه شَرْعًا واحدًا وجِنسًا متشاكِلاً ولم يردُّوه إلى حكمٍ ثابتٍ لا يتبدَّلُ فيعتدُّوا بكلِّ لَبسٍ أو يهمِلوهُ، بل عامَلوا كلَّ فَردٍ منها على حِدةٍ ونظَروا إليه نظَرَ الوالدِ الشفيقِ في مصلحةِ ولَدِه فمايَزوا بين عِلَلِه المتجاذبةِ وأصولِه المتدافِعةِ ثمَّ قضَوا له بأشبهِها بالحكمةِ وأردِّها عائدةً على المتكلِّم. وهذا بابٌ واسِع المضطرَبِ. وقد تناوَلنا منه ما يعيننا على فَهم هذه المسألة وتعرُّفِ الصوابِ فيها.
وكلمةُ (التقويمِ) في دلالتِها على معنيينِ هي من جِنس المشترَك اللفظيِّ. وقد رأينا العربَ احتمَلت هذا وأشباهَه. ورأيناهم أيضًا في ما اعتدُّوا به من اللَّبس لم يزيدُوا على أن فطِنوا إليه قبلَ الوضعِ كما في نحو (يقول) و(يبيع) أو عرَض لهم بعدَ الوضعِ فتركُوه على أصلِه الأوّلِ ولم يُجروا عليه القياسَ الذي أجرَوه على نظائرِه كما في (طَويليّ). وذلكَ أيسَرُ وأقلُّ كُلفةً من نقلِ الشيءِ عن قياسِه وإفرادِه بحُكم جديدٍ. فكيفَ يَجوز بعد هذا أن يزعم زاعِمٌ صِحّة إبدالِ واو (التقويم) ياءًا مع أن الإبدالَ تصرّف مخرِج عن الأصلِ؟ وعلَى أنَّ اللبسَ في استعمال (التقويم) في كلا المعنيينِ من ما لا يكادُ يقَعُ لأنَّه ليس بين المعنيينِ شيءٌ من التقاربِ تعيَا القرائنُ عن كشفِه، من قِبَلِ أنَّ سياقَ الكلامِ كفيلٌ بتعيينِ المعنى المُرادِ، فإذا قلتَ مثَلاً: (قوَّمت السِّلعةَ أو الدرجاتِ) عُلِم أن المعنى (قدَّرتُ قيمتَها). وإذا قلتَ: (قوَّمت العصا) عُلِم أنّ المرادَ إصلاحُها وتعديلُها. وهذا على خلافِ (الجَون) مثَلاً، فإنَّ سياقَ الكلامِ قلَّما دلَّ على تعيينِ أحد المعنيينِ، فإذا سمعتَ قائلاً يقول: (رأيتُ رجلاً جونًا) لم تدرِ أأرادَ أبيضَ أم أسودَ. وقد قبِلوه مع ذلك ولم يتصرَّفوا فيه بشيءٍ.
الثالث: أنَّا لو سلَّمنا أنَّ في (التقويمِ) لبسًا يجِبُ رفعُه لم نسلِّم أنَّ ذلكَ يكون من طريقِ الاعتدادِ بالبدَل العارِض، وذلك لأمورٍ:
أولُها: أنَّ العربَ لا تعقِد الاعتداد بالعارضِ بعِلَّةٍ من العللِ لا خشيةِ لِبسٍ ولا غيرِها، وإنَّما تجرِيه إنْ أجرَتْه مجرَّدًا من ذلك.
ثانيها: أنَّ الاعتدادَ بالعارِض قليلٌ في كلامِهم. وهذه مسألةٌ محوِجةٌ إلى فَضلِ بسطٍ وبيانٍ، فنقول:
إنَّ في كلامِ العربِ ضروبًا من التفريعِ، فمن هذه الفروع ضربٌ يسمَّى طارئًا أو عارِضًا، وهو تغيير يسيرٌ يَطرأ على الكلِمة على غيرِ نيَّة الاستِقلالِ عنها، وذلكَ بالحذفِ أو الإبدالِ في الحركاتِ أو الحروفِ. وقد يكونُ حالاً طارئةً كالوقفِ ونحوِه. وهم يجعلُون حكمَه حكمَ الأصلِ. ولذلكَ لم يبالُوا أن تزولَ عنه العِلَّة التي كانت في أصلِه ويبقَى حكمُها، ألا تراهم قالُوا في تخفيف (الأحمر): (الاحمر) فأبقَوا همزةَ الوصلِ مع أنَّ الغرضَ الذي جيءَ بها من أجله، وهو التوصُّل إلى النطق بالساكن، قد زالَ. ومنهم مَن يعتدُّ بالعارضِ فيحذِفها. كما أن أصلَ (يضَع) وأمثالِها هو (يضِع) بآيةِ ما حذفوا الواوَ منها، وهي لا تُحذَف إلا إذا كانت عينُ الفِعل مكسورةً كـ(يعِد)، فلمَّا فتحُوها رعايةً لكونِ لامِ الفِعل، وهي العينُ، من حروف الحَلقِ لم يَردُّوا الواوَ المحذوفةَ مع زوالِ علَّتِها بفتحِ العينِ، إذْ كانَ ذلك طارئًا. وتأمَّلْ مبلغَ حكمتِهم كيفَ تهيَّأ لهم أن يجمَعُوا بينَ إرادةِ التخفيفِ بالفتحِ، وهو ما يدعو إليه حرفُ الحَلقِ، وبينَ الدّلالةِ على الأصلِ بالإبقاء على حذفِ الواوِ. ونظيرُ ذلك أيضًا نداءُ المرخَّمِ كقولِك: (يا فاطم)، فإنَّ جمهور العربِ لا ينقُلون حركةَ التاء المحذوفةِ إلى ما قبلها، كأنَّهم لم يعتدُّوا بالحذفِ لطروئِه. ومِنها أنهم لما حذفوا حرفَ العِلة في نحوِ (رمَتْ) لالتقاء ساكنين، إذ أصلها (رمَاْتْ) ثم وجدُوا التاء قد تتحرَّك، وذلك إذا وليَها ساكنٌ نحو (رمَتِ المرأة) لم يردّوا حرفَ العِلّة المحذوفَ فيقولوا: (رَمَاْتِ المرأةُ) مع زوالِ علّة حذفِه بتحريكِ ما بعدَه. وذلكَ لأنَّ حركةَ ما بعدَه حركةٌ طارِئةٌ. ومنها أنَّهم إذا أسكنوا العينَ في نحوِ (رَضِيَ) تخفيفًا فقالوا: (رَضْيَ) لم يَرجعوا الواوَ المبدَلة مع زَوال علّتِها لأن هذا الإسكانَ عارِضٌ. وذلك أن أصلَها (رَضِو)، فلما وقَعتِ الواو متطرِّفة بعد كسرٍ أبدِلت ياءًا. وهذا كثيرٌ معروفٌ.
وكما أبقَوا حكمَ الأصلِ في الفرعِ مع زَوال العِلّة الموجِبة له بالتفريعِ، كذلكَ لم يعبئوا بالعِلَّة الحادثةِ في الفرع بعدَ التفريعِ فلم يبنُوا عليها حكمًا، مثالُ ذلك نحوُ (جَيْئَل)، فإن منهم من يخفِّفها فيقول: (جيَل) ثمَّ لا يبدِل الياء ألفًا مع تحرُّكها وانفتاح ما قبلها إذْ كانَت هذه العِلَّة عارضةً. ومثلُه أيضًا نحو (رُؤْيا)، فإنَّهم ربَّما خفَّفوها على (رُوْيا)، ولم يدعُهم هذا إلى أن يبدِلوا الواو ياءًا ويدغموها في ما بعدَها فيقولوا: (رُيَّا) مع اجتماعِهما وسكونِ السابقِ منهما إلا جماعةً منهم، فإنهم يقولون ذلك. وهو شاذٌّ. كما إنهم لا يجيزونَ إبدال الواو المضمومةِ همزةً في نحو (هذا غَزْوٌ فاعلم) لكون الضمّة طارئةً.
وقد رأيتَهم كيفَ جعلُوا الفَرع العارِضَ دونَ حكمِ الأصلِ وحطُّوه عنه درجةً، إذْ كان وجودُه تابعًا لوجودِه ومنوطًا به. وكأنَّهم أرادُوا بذلكَ أن يجعلوه دَليلاً على منبِتِه ومَنبهةً على أرومتِه. كما كرِهوا أن يسوُّوا الأثيلَ التليدَ بالطارِفِ الجديدِ ويعدِلوا القديمَ الثابتَ بالمستأنَفِ الحادثِ ويعلِّقوا أحكامَهم على ما يعلمونَ سرعةَ تحوُّله ووشْكانَ رحيلِه. وهو شاهِدٌ على ثقوبِ فطنتهم وصِحَّة تدبيرِهم.
وأمَّا الذينَ اعتدُّوا بالعارِض في بعض المسائلِ فكأنَّهم وجدُوا في مراعاةِ الأصلِ مشقَّةً وعنَتًا ومحافظةً وجمودًا فآثَروا النظرَ إلى الحالِ على تكلُّف ملاحظةِ المآلِ. وكلٌّ قد رامَ وجهًا وانتحَى مذهبًا، إلا أنَّ الأوَّل هو الكثيرُ الغالبُ والسائرُ المنقادُ. وإذا كان ذلك كذلك لم يجُز القياسُ على اعتدادِهم بالعارض لقِلّته وشذوذِه.
ثالثها: أنَّ (التقويم) ليس لفظًا عارِضًا لـ(القِيمة)، بل هو لفظٌ مشتَقٌّ منه ومفرَّعٌ عنه على جهةِ الانفصالِ. وقد شرحنَا آنِفًا معنَى العروضِ الذي قد يعتدُّون به. فأمَّا هذا فلا يُعتَدّ به بحالٍ لأنه ليس عارِضًا.
فأمَّا جَمعُهم (العِيدَ) على (أعياد) وتصغيرُه على (عُيَيْد) وقولُهم: (عيَّدَ النَّاسُ) معَ أنَّ الياءَ مبدَلة من الواوِ فإنما هو على سبيلِ التوهُّمِ لأنَّه لما طالَ عليهِم استِعمالُ (العِيد) أنساهم هذا أصلَه وظنُّوا الياء هي الأصلَ، فلمّا أرادوا الجمعَ والتصغيرَ واشتقاقَ فِعلٍ من (العِيد) لم يراجِعوا الواوَ. ونظير هذا جمعُهم (القَيل) على (أقْيال) و(الزِّير) على (أزيار) و(الحَيْزَ) على (أحياز) و(المِيسم) على (مياسِم) و(المِيثرة) على (ميَاثِر) و(الرِّيحَ) على (أرياح) و(الميثاق) على (ميَاثِق)، قال الشاعِر: 
حِمًى لا يُحَلّ الدَّهرَ إلا بإذنِنا ** ولا نَسألُ الأقوامَ عهدَ المياثقِ 
مع أنَّ الياء في هذه الأمثلة كلِّها مبدَلةٌ من الواو. وقد تهِمُ العربُ في أصولِ الأبنِية وتُداخِلُ بينها، وربَّما حسِبتِ الزائِد أصلاً، ألا تراهُم جمعُوا (المَسيلَ) على (مُسلان) و(المكَانَ) على (أمكنة) و(أماكن) مع أنَّ الميمَ فيهما زائدةٌ، وجمعُوا (المصيبة) و(المعيشة) على (مصائب) و(معائش) مع أنَّ الياء فيها منقلبةٌ عن أصلٍ، وقالَ بعضهم: (حلّأتُ السويقَ) و(رثأتُ الميتَ) مع أنَّ أصلَهما الياءُ. وقالوا: (أسنتَ الناسُ): إذا أصابتهم سنةٌ، توهّموا تاء التأنيث المزيدة في (سنة) أصلاً. ومثلُه إعرابُهم بابَ (سنين) بالحركاتِ. وذلك لتوهُّمِهم أصالةَ النونِ.
وإذا كان إبقاءُ الياءِ في مسألة (الأعياد) توهُّمًا لم يجُز القياسُ عليه لأنَّه لم يطَّرِد في هذه المسألةِ وإن كانَ في مسائلِ التوهُّم ما يجوزُ القياسُ عليه كالجرِّ على الجِوار عندَ بعضهم نحو (هذا جحرُ ضبٍّ خرِبٍ) وكالعطفِ على التوهُّم نحو قولِه : ((فأصدقَ وأكن مِّن الصالحين)) [المنافقون: 10].
ولا يصِحّ أن يكون التصغيرُ وجمعُ التكسير من الفروع العارضةِ لأنا رأيناهم إذا صغَّروا الكلِمة أو كسَّروها ضربُوا عنها صَفحًا، ألا تراهم إذا صغَّروا (رِيحًا) و(ميقاتًا) أو جمعوهما قالوا: (رُويحة) و(أرواح) و(مُويقيت) و(مواقيت) فيعيدون الواوَ المبدَلة، وإذا صغَّروا (عُمَرَ) قالوا: (عُمَيرٌ) فيصرفونه جميعًا ولا يُراعون أصلَه. وإنَّما امتنَع أن يكونَ التصغيرُ وجمعُ التكسيرِ من الفروع العارِضةِ لأنهما يحيلانِ الاسمَ عن صورتِه لفظًا ومعنًى.
وهذا كافٍ في بيانِ فسادِ قولِ من جعلَ الإبدالَ في (عُيَيد) و(أعيادٍ) ونحوها لخشية التباسِه بـ(الأعواد) جمع (عُود)[5]. ويَشهَد له أيضًا أنّا رأيناهم أبدَلوا ما لا يخشَى التباسُه بغيرِه كـ(مواسم) و(مياثق) ونحوِها. وعلَى أنّ دعوى وقوعِ اللبسِ بين جمعِ (العِيد) وجمع (العُود) لا تصِحّ لأنه شتَّانَ ما معنيَاهما، وإنما يقعُ اللبسُ بينَ المتقارِبينِ.
وأمَّا قولهم: (ديَّمتِ السَّماء) فإنه من قولِهم: (دامتِ السَّماءُ تديم دَيْمًا). وقد سُمِعَ هذا عنهم[6]. وليس هو من بابِ (دامت تدومُ) و(دوَّمت). وإذن فهما أصلانِ متبايِنان. ويدُلّك على هذا أنَّهم جمعُوا (الدِّيمة) على (دُيُوم)[7] وقالُوا: (أرضٌ مَدِيمة)[8]. ولولا ذلك لقالوا: (دُوُوم). على أن الأجوف الواويَّ لا يُجمَع على (فُعُول)، ولقالُوا: (مدُومة). وقد تتقارَب الأصولُ مع تقارُب معانِيها. ومن صُوَرِ ذلكَ أن يكونَ أحدُها معتلَّ العينِ بالواوِ والآخَر معتلَّها بالياءِ. ومثالُ هذا قولُهم: (طاح يطيح ويطوح) و(ضار يضير ويضور) و(تاه يتيه ويتوه) و(ساخ يسيخ ويسوخ) و(زاغ يزيغ ويزوغ). وقد يجوز أن تكون (الدِّيمة) من كلا البابَين. وعلَى أنّه لو لم يصِحَّ ثبوتُ بابِ اليائيِّ فإنَّه ينبغي حين إذٍ أن يُحمَل على الإبدالِ كما قالُوا: (تأوَّب وتأيَّب) و(تحوَّز وتحيَّزَ) و(تضوَّع وتضيَّع) و(تبوَّغ، وتبيَّغ). وأيُّ ذلك كان فكلا الاحتمالين شاذٌّ لا يقاسُ عليه.
ولا يَجوز أن يكون الفِعلُ (ديَّمت) لفظًا عارضًا كما لم يجُز ذلك في التصغيرِ وجمعِ التكسير للعِلّة التي بينَّا آنِفًا. هذا وليس ثَمةَ لفظٌ يُخشَى أن يلتبِس به هذا اللفظُ حتى يحمِلهم هذا على أن ينفصلوا عنه بالإبدال.
الرابع: أنا لو سلَّمنا بأن في (التقويم) لبسًا وأنَّ العربَ تعتدّ بالعارض كثيرًا وتعلِّقه بوقوعِ اللبسِ وأنَّ (التقييم) لفظٌ عارِضٌ لـ(القيمة) وأنَّ من شواهِد هذا الحُكم قولَهم: (عُيَيد) و(أعياد) و(عيَّد الناسُ) وقولَهم: (ديَّمت السماءُ) لم نسلِّم أنَّ ذلك من مَّا يصِحّ أن يقاس عليه لأنَّه لم يبلغ مبلغَ الاطِّراد المستمرِّ.
فقد ظهرَ إذن أنَّه ليس لكلمةِ (التقييم) حجةٌ صَحيحةٌ من السماعِ أو القياسِ.
_______________
[1] منهم مجمعُ اللغة بالقاهرة، راجع مجلةَ المجمع 24/ 200 والمعجمَ الوسيط (قيم)، ومحمدٌ العدناني في معجم الأخطاء الشائعة 212 وإميل يعقوب في معجم الخطأ والصواب 224. وقد لخَّصت حجتَهم بأوفى وأبينَ من ما ذكروا.
[2] توهم صاحب معجم الخطأ والصواب 224 أنه اسم غير مصدر. ولا يصِحّ، فإنه مصدرٌ لـ(قامَ الشيء) بمعنى (بلغَ ثمنُه)، يقال: كم قامت ناقتُك؟ أي: كم بلغَ ثمنُها. انظر تهذيب اللغة لأبي منصور الأزهري (قوم) رواية عن أبي زيدٍ في (نوادره). وليس في المطبوع منها. وهو أيضًا في البارع في اللغة لأبي علي القالي 514 وغيرِه.
[3] راجع العين (قوم) وغريب الحديث لأبي عبيد 5/ 247 والبارع لأبي علي 517 وتهذيب اللغة للأزهري (قوم) وغيرَها.
[4] النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير 4/ 125.
[5] منهم ابن قتيبة في أدب الكاتب 603 والجوهري في الصحاح (عيد).
[6] راجع شرح ديوان الحطيئة لابن السكيت 119 (تح نعمان طاها) وشرح المفضليات لأبي محمد الأنباري 1/ 24 (تح طريفي) وشرح القصائد السبع 558 لابنه أبي بكر. كلاهما عن الأصمعي. ونقلَه أبو حنيفة عن الفراء كما حكى عنه ابن سيده في المحكم (ديم). وليس في المطبوع من كتابه النباتِ. وانظر الخصائص لابن جني 1/ 355.
[7] رواه أبو منصور في التهذيب (دوم ديم) عن أبي العميثل.
[8] رواه أبو عبيد في الغريب المصنف 1/ 457 (تح داوودي) عن اليزيدي، وأبو مسحل في نوادره 1/ 369.

هناك تعليق واحد: